يقول الشيخ عطية صقر – رحمه الله تعالى -:

الحكم المناسب في ميقات المسافر بالطائرة، والذي لا يترتب عليه حرج ولا إخلال: هو أنّ القادمين بالطائرات اليوم لا يَجب عليهم الإحرام إلا من بعد أن تهبِط الطائرة بهم في البلد الذي سيسلُكون بعده الطريق الأرضي، فإذا هبطت الطائرة بهم في بلد يقع خارج المواقيت، يكون عندئذٍ ميقاتُهم للإحرام هو الميقاتَ الذي سيمرُّون به، أو من الموقع الذي يحاذِي أحد المواقيت المحدّدة لمختلف الجهات، إذا كانوا لا يمرّون بأحد تلك المواقيت.
أما إذا كان المكان الذي تهبط فيه الطائرة بلدًا يقع بعد أحد المواقيت المذكورة، أي: بينه وبين الحَرَم، فإن ميقاته للإحرام هو ذلك البلد نفسه، فيصبح حينئذٍ كأهله، فلا يجوز له أن يجاوزَه إلا مُحْرِمًا.

وبما أن المطار الدوليّ اليوم الذي يهبط فيه الحُجّاج والمعتمِرون هو في مدينة جدّة، وهي واقعة ضمن بعض المواقيت، فإن القادمين بطريق الجو إلى جدة لحج أو لعمرة، يكون مِيقاتُهم للإحرام مدينة جدّة، فلا يجوز أن يتجاوزوها إلا مُحرِمين؛ لأنهم يُصبحون عندئذٍ كأهل جدة، فيُحرِمون من حيث يُحرِم أهلها.

فلو أن المطار الذي يهبط فيه الحجاج أو المعتمِرون نُقِلَ فيما بعد إلى مكّة؛ لأصبح القادمون جوًّا كأهل مكّة، فيُحرِمون من حيث يُحرم المكِّيُّون.

أي: أن القادم بالطائرة بوجه عام، من أي جهة كان قدومه، متى هبطت طائرته في مكان آخرَ لكي يتابِعَ بعده السير بالطريق البريِّ، يأخذ عندئذٍ حكمَ أهل ذلك المكان بشأن الإحرم.

أما القول بأن عليه أن يُحرِم وهو في الطائرة في الجو متّى مرّت الطائرة بأحد المواقيت، أو حاذته، فهذا لا أرى دليلًا شرعيًّا يوجبه، وهو مبني على تصوُّر أن القدوم جوًّا بالطائرة مشمول بالحديث النبوي الذي حدَّد المواقيت الأرضيّة. وهذا في نظري رأي غير سليم في فهم النصوص فهمًا فقهيًّا كما سبق إيضاحه، علاوة على ما فيه من حَرج شديد وصعوبة، قد تصلُ إلى حد التعذُّر بالنظر إلى حال الطّائرات العاّمة، ولا سيِّما الدرجة السياحيّة فيها (وهي التي تأخذها الجماهير)، وضيق مقاعِدها لاعتبارات تِجاريّة، حتى إن الراكب ينزل في مقعَده كما ينزل الإسفينُ في الخشب، ويعسُر عليه التحرُّك في تناول وجبة الطّعام، فضلًا عن أن يخلع ملابِسه المَخيطة ويرتدي الرِّداء والإزار..وأين في الطائرة مغتسَل ومصلًّى ليقيم سُنَّة الإحرام؟

وأغرب من ذلك قول من يقول: إن هذا الحرج يمكن رفعُه، بأن يُحرِم بملابسه في الطائرة، ثم يخلعُها بعد الهبوط ويَفْدي بدم جزاء..فمتى كانت هذه الشريعة الحكيمة السمحة تُكَلِّف أحدًا ما يُشبه المستحيلَ لتعسُّره أو تعذُّره، على أن يخالِفه المُكَلَّف، ويتحمَّل بدلًا منه جزاءً مكلّفًا؟ إن الشريعة الحكيمة بَراء من مثل هذا التكليف.

وأشد غَرابة من هذا رأي من يقول ـ وكل هذا قد سمعناه ـ أن الحلّ لهذه المشكلة هو أن يُحْرِم من يريد القدوم بالطائرة من بيتِه قبل ركوبِها! فماذا يقول هؤلاء إذا كان قاصد الحج، أو العمرة من أهل موسكو أو سيبريا قادِمًا في الشتاء، حيث درجة الحرارة خَمسون تحت الصِّفر بمقياس سنتيغراد؟!

هذا ما يبدو لي أنّه الوجه الصحيح في هذه القضية، واستنباط الحلِّ والحكم الشرعيّ الذي يُناسبها، بعد إعمال الفكر منذ سنوات في مُلابساتها، وإنعام النظر في الأدلة، والاستئناس بالدلائل، فقد كثُر السؤال عنها، وكلّما تقدّم الزمن سنة، ألحَّت الحاجة إلى البيان الشافي فيها بصورة مدروسة بصيرة، لا تَسَرُّع فيها ولا ابتسار، ينظر فيها إلى هذه القضية من مختلف الزوايا لا من زاوية واحدة، وما يَدرينا لعلّ سنواتٍ قادمةً غير بعيدة تصبح فيها الطائرة من الوسائل العتيقة البطيئة، ويحلُّ محلَّها الصاروخ الذي يطوي المسافات الزمانيّة والمكانيّة الطويلة والبعيدة، فيختزلها في دقائقَ معدوداتٍ، كما يتنبّأ به كثير من رجال العلم والفكر. وإن ما شهدناه في هذا العصر من عجيب الإنجازات، التي كلما تحقَّق منها شيء لم يكن ليصدُق لو رُؤِيَ في المنام، فتح تحقُّقُه طريقًا لما هو أعجب منه.

وهذا الحلُّ الذي ارتأيته بالدليل الذي رأيته، وأرجو أن يكون صوابًا، هو صالح لأن يتمشّى مع مختلف الوسائل المُبتكرة في النّقل والأسفار مهما تطوّرت، فإن كان صوابًا فمن فضل الله تعالى، وإن كان خطأ فمن قصور فكري وعلمي، والله سبحانه أعلم، وهو الهادي إلى سواء السبيل.