المقصود بالبراءة الأصلية هي أن الأصل في الأشياء التي لم يرد فيها نص بالتحريم أنها مباحة شرعًا، حتى تثبت حرمتها، وتعرف أيضًا بالبراءة العقلية، وهناك مايعرف بالبراءة الشرعية أو الإباحة الشرعية، وهي ماثبتت إباحتها عن طريق الشرع،كحل البيع لقوله تعالى :(وأحل الله البيع )، والفرق بين الإباحة العقلية والإباحة الشرعية ،أن الإباحة العقلية لا يدخلها نسخ، أما الإباحة الشرعية فهي التي يدخلها نسخ ،نحو تحريم الخمر ،فهو نسخ لقوله :( لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) فقد كان الخمر مباحًا،أما الربا فقد كان الناس يتعاملون به على سبيل البراءة الأصلية قبل ورود النهي عنه.

يقول الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق -رحمه الله تعالى -:
المقصود بالإباحة العقلية، أو البراءة هوما لم ينزل فيه نص من الله سبحانه وتعالى يحرمه أو ينهى عنه ، فالأصل في الأشياء والأعمال الإباحة ما لم يأتنا دليل شرعي ينقلنا عن هذه الإباحة ودليل هذه الإباحة العقلية أن الله خلق الإنسان في هذه الأرض ليعمرها ولم يكلفه سبحانه إلا بما يأمره به على ألسنة رسله، فما لم يأتنا به الشرع فالأصل فيه الإباحة لأن مجرد خلق الإنسان وجعله خليفة في الأرض هو بمثابة الإذن له بالسعي والكد، وسلوك سبيل الحياة المناسب كما قال تعالى على لسان صالح عليه السلام: {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها} (هود:61)

ومعنى {استعمركم} أي خلقكم لتعمروها ولا تكون عمارتها إلا بالسعي والكدح واستكشاف المجهول والتعلم عن طريق التجربة والخطأ…

وكذلك قال تعالى: {ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهـرة وباطنة} (لقمان:20)، وهذا التسخير يعني إباحة ما في السموات والأرض لمنفعة الإنسان وحياته ومعاشه.

وهذه الإباحة العقلية تسمى أيضاً في علم الأصول (استصحاب العدم الأصلي)
2- الإباحة الشرعية:

والمقصود بها ما ثبتت إباحته بنص شرعي على خصوصه كقوله تعالى: {وأحل الله البيع} (البقرة:275).. وقوله: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} (البقرة:187) أو إباحة شرب الخمر المفهوم من قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} (النساء:43)، وذلك كان قبل النسخ .

الفرق بين الإباحة العقلية والشرعية:

والفرق بين الإباحتين من جهة النسخ، فإذا أنزل الله قرآناً أو تكلم الرسول بحكم يرفع الإباحة العقلية فإن هذا لا يسمى نسخاً. فتحريم الربا ليس نسخاً لحكم شرعي لأن المسلمين كانوا يفعلونه على البراءة الأصلية والإباحة العقلية قبل ورود النص فيه، وأما تحريم الخمر الثابت في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون} (المائدة:90) هو نسخ للإباحة الشرعية السابقة في قوله تعالى: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} (النساء:43)

مباحث في الإباحة العقلية:

هناك خلاف بين علماء الأصول حول هذه الإباحة ومحصلته ما يلي:

(أ) قال بعضهم الأصل في الأشياء والأعمال هو المنع حتى يرد دليل شرعي لأن التصرف في ملك الغير مذموم، ولا يجوز للإنسان أن يتصرف في ملك الله بغير إذنه وهذا القول لا شك في خطئه لأن في هذا تحجيراً كبيراً على تصرف الإنسان وتجميداً للحياة على الأرض، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إن كان شيئاً من أمر دنياكم فشأنكم به، وإن كان من أمور دينكم فإلي] (رواه أحمد (6/123) وابن ماجه (2471) وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (2003))

وهذا دليل واضح على أن الدنيا يسعى فيها، وتعم كل سبيل دون انتظار للأمر الشرعي في شئونها ، فإذا ورد الأمر الشرعي فهو الحاكم، فشئون الزراعة، والصناعة، والرعي، وعلوم الأحياء، والكائنات، والكون، كل ذلك مباح للإنسان قد أذن الله فيه إذناً عاماً له بمجرد أن أهبطه إلى هذه الأرض، وكان هذا هو ما فهمه الصحابة رضوان الله عليهم فقد تعاملوا بما كانوا يتعاملون، وعاشوا حياتهم كما كانوا يعيشون ولم ينتهوا عن أمر ما إلا بعد أن وصلهم الحكم الشرعي فيه.

(ب) وقال آخرون: بل الأصل في الأشياء والأعمال هو التوقف، وهذا في النهاية مرده إلى القول الأول لأن المتوقف عن الفعل وإن لم يحرم ما توقف عنه إلا أنه منتظر أيضاً وصول الأمـر الشرعي كالذي يحرم تماماً، والرد على هؤلاء هو الرد على أولئك ولذلك فالصحيح هو ما قدمناه من أن الأصل في الأشياء والأعمال هو الإباحة والبراءة الأصلية، ولا شك أن من ثمـار هذا الأمر أن ينطلق الإنسان إلى الإبداع والاختراع والسعي والتحصيل، والعلم.. قال تعالى: {فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور} (الملك:15)

وهذا حث على السعي والتعلم والكسب، وهذه الآية نص في الإباحة العامة والبراءة الأصلية.