في أواخر عصر الصحابة رضي الله عنهم ظهر من يتعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، رغم ما ورد عنه من الوعيد على ذلك والتحذير منه، وكان أغلب من اشتهر بوضع الحديث قوم من الملاحدة دخلوا في الدين تستراً، فأَرادوا إفساد العقيدة، والتشكيك في الإسلام.
وآخرون (من الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً) (الروم:32)، قصدوا التعصب لمذاهبهم، وقبائلهم وبلادهم، فأخذوا في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وافتروا عليه كذباً
ونوع ثالث وهم القُصاص الذين أرادوا الشهرة بكثرة المرويات، وغرائب الحكايات التي تستثير النفوس وتحرك القلوب.

يقول فضيلة الشيخ عبد الله بن جبرين: عندما أحس علماء الحديث بهذا الخطر قابلوه بما يبطله ويرده من حيث جاء، ليسلم الحديث النبوي من كل دغل وكدر، ويبقى معيناً صافياً لمن يرتاده، وقد وضعوا لذلك قواعد، وابتكروا طرقاً كانت سبب نجاح فكرتهم:
1. فمنها التزام الأسانيد وتسمية الرواة، وهذا من خصائص هذه الأُمة، وبه يعرف مصدر الحديث، ومرتبة رجاله، فيحكم بقبوله أو رده، قال عبد الله بن المبارك: الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء. رواه مسلم في مقدمة صحيحه، وكان من نتيجة ذلك أن توقف الكثير عن الوضع مخافة ظهور كذبه، مما يسقط به قدره عند من يعظمه.

2. تتبع أحوال الرواة، والبحث عن مكانتهم في الحديث وأهليتهم لتحمله، وقد أقدموا على الكلام فيهم من باب النصيحة للأُمة، حيث إنهم تولوا نقل شيء من أمر الدين له حكم. وقد خصصوا هذا النوع من عموم النهي عن الغيبة لما فيه من المصلحة العامة للأُمة.

3. التثبت في الرواية تحملاً وأداء، فكان أحدهم لا يقدم على ذكر الحديث إلا بعد إتقانه، ولا يحدثون به إلا من هو أهل لسماعه، ويتحاشون تحديث السفهاء وأهل الأهواء، وقد نتج عن هذه الجهود ونحوها أن ميزوا الحديث النبوي، وأخرجوا الموضوع عن مسمى الحديث، وعرفوا الكذابين، وبينوا حالهم، وكشفوا عوارهم، مما جعلهم يتوارون أمام هؤلاء الجهابذة الأعلام، حتى لقد قال سفيان الثوري: ما ستر الله أحداً يكذب في الحديث، وقيل لابن المبارك: هذه الأحاديث الموضوعة؟ قال: تعيش لها الجهابذة ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له الحافظون)(الحجر:9). ذكره العراقي عنهما في فتح المغيث وغيره.أهـ

وبعد؛ فقد سخَّر الله العلماء الأثبات الثقات الذين ينخلون الروايات، ويتتبعون مصادرها ويقفون على تراجم رواتها حتى إنهم ليذكرون متى اختلط الراوي ومن الذين رووا عنه قبل الاختلاط ومن روى عنه بعد الاختلاط ، ويعرفون رحلات الراوي ودخوله البلدان وعمن أخذ من أهلها، وهكذا في قائمة طويلة يصعب حصرها، وكل ذلك يدل على أن هذه الأمة محفوظة في دينها مهما حاول الأعداء الكيد والعبث والتحريف .
وهذا تصديق لقول الحق سبحانه وتعالى : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } فقد تكفل الله تعالى بحفظ دينه، ومنه حفظ الكتاب المعجز، ومعه حفظ السنة النبوية التي تعين على فهم القرآن، والذكر يشمل القرآن والسنة .

قال سفيان الثوري: الملائكة حراس السماء ، وأصحاب الحديث حراس الأرض .
فالملائكة تحفظ السماء من استراق الشياطين السمع، وأهل الحديث يحرسون الأرض من كذب الوضاعين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون .
وذكر الحافظ الذهبي أن هارون الرشيد أخذ زنديقا ليقتله، فقال الزنديق: أين أنت من ألف حديث وضعتها، فقال الرشيد: أين أنت يا عدو الله من أبى إسحاق الفزاري وعبد الله بن المبارك ينخلانها فيخرجانها حرفاً حرفاً .