يجب على أهل المريض أن يصبروا عليه، ولا يضيقوا به، أو يملوا منه، وخصوصًا إذا طال مرضه.
فإن الأشد من المرض إيجاعًا وإيلامًا، أن يشعر المريض أنه أصبح عبئًا على أهله، وأنهم يتمنون أن يريحهم الله منه، يرى ذلك على صفحات وجوههم، وفي نظرات أعينهم، وفلتات ألسنتهم.
وإذا كان صبر المريض على ما ابتلي به من المرض، من أعظم ما يثيب الله تعالى عليه، كما صحت بذلك الأحاديث، فإن صبر آله وذويه على تمريضه ومعاونته على الشفاء لا يقل مثوبة عنه، بل قد يزيد عليه ؛ لأن صبر المريض أشبه بصبر الاضطرار، وصبر أهله صبر اختيار، ذلك صبر على البلاء، وهذا صبر على فعل الخير.
ومن أوجب من يجب الصبر على صاحبه إذا حل به المرض: الزوج على زوجته، والزوجة على زوجها.
فالحياة أزهار وأشواك، ونفحات ولفحات، ولذات وآلام، وصحة وسقام، ودوام الحال من المحال.
ولا يجوز لرجل ذي دين وخلق أن ينعم بزوجته حال الصحة، ويتبرم بها عند المرض، فيأكلها لحمًا، ويلقيها عظمًا، ويمص عصارتها شابة، ثم يرمى بها قشرة حالة الضعف والعجز، فليس هذا من الوفاء، ولا من حسن العشرة، ولا من أخلاق الرجال، ولا خصال المؤمنين.
كما لا يجوز لامرأة سعدت بالحياة مع زوجها شابًا صحيح البدن، قوى البنية أن تضيق ذرعًا به إذا داهمه المرض، فاعتل بعد صحة، وضعف بعد قوة، وتنسى أن الحياة الزوجية الفاضلة هي التي تقوم على التعاون الدائم على الحلوة والمرة والعافية والبلاء.
وقد شكا الشاعر العربي قديمًا من امرأته (سليمى) حين ضجرت منه لمرضه، فلما سئلت عنه قالت : لا حي فيرجى، ولا ميت فينسى ! على حين كانت أمه حانية عليه، ملهوفة على شفائه، حريصة على بقائه، فقال في ذلك:
أرى أم عمرو لم تمل ولم تضق
وملت سليمى مضجعي ومكاني !
فأي امرئ ساوى بأم حليلة
فلا عاش إلا في أسى وهوان !
لعمري لقد نبهت من كان نائمًا
وأسمعت من كانت له أذنان !
وأوجب من صبر كل من الزوجين على مرض صاحبه وشريك حياته : صبر الابن على مرض الوالدين . فإن حقهما بعد حق الله تعالى، وبرهما من أصول الفضائل التي جاءت بها الرسالات الإلهية، ولهذا وصف الله تعالى يحي عليه السلام بقوله : ” وبر بوالديه ولم يكن جبارًا عصيًا ” (مريم : 14) . وأنطق المسيح عيسى ابن مريم في المهد صبيًا، فكان مما وصف به نفسه : ” وبرًا بوالدتي ولم يجعلني جبارًا شقيًا ” (مريم : 32).
ومثل الابن : البنت، بل هي أحق برعاية أبويها وتمريضهما، وأقدر عليه من الابن لما حباها الله به من حنان دافق، وعاطفة فياضة، لا تتوافر دائمًا عند الأبناء الذكور.
وقد جعل القرآن الإحسان بالوالدين بعد توحيد الله تعالى، كما في قوله عز وجل : ” واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا وبالوالدين إحسانا ” (النساء : 36)، ” وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا “. (الإسراء : 23).
وقد نبه القرآن في هذه الآية الكريمة على حالة خاصة، أو مرحلة معينة من العمر، يتأكد فيها البر والإحسان، وهي حالة الكبر والشيخوخة التي يكون فيها الأبوان في غاية من الحساسية النفسية لأي كلمة تصدر من أولادهما، تشعرهما بالتأفف أو الضجر من وجودهما، وهو ما صرح القرآن بالنهى عنه تعيينا وتحديدًا في قوله سبحانه: ” إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريمًا . واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرًا ” (الإسراء : 23، 24).
جاء عن على بن أبى طالب رضى الله عنه قوله : لو علم الله في العقوق شيئًا أدنى من (أف) لحرمه.
وتعبير القرآن بقوله : ” يبلغن عندك ” يدل على أنه أصبح مسئولا عنهما، وأنهما أصبحا في عداد عياله.
والصبر على الأبوين في حالة الضعف والكبر من أوسع الأبواب المؤدية إلى الجنة والمغفرة، ومن ضيع هذه الفرصة فقد ضيع على نفسه مغنمًا كبيرًا، وخسر خسرانا مبينًا.
وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال فيما رواه عنه أبو هريرة: ” رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه ! من أدرك أبويه عند الكبر، أحدهما أو كلاهما، ثم لم يدخل الجنة “. (رواه أحمد ومسلم كما في صحيح الجامع الصغير، رقم 3511).
وفى الحديث الآخر الذي رواه كعب بن عجرة وغيره :
أن جبريل أمين الوحي دعا على من أضاع هذه الفرصة على نفسه، وأمن على ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- (ونص دعوة جبريل : ” بعد من أدرك أبويه عند الكبر أو أحدهما فلم يدخل الجنة ” رواه الطبراني ورجاله ثقات، كما في مجمع الزوائد للهيثمي 10/166 وله جملة شواهد).
ومثل حالة الشيخوخة : حالات المرض كلها، التي تجعل الإنسان في صورة من الضعف والحاجة إلى رعاية الغير، وعدم القدرة على الاستقلال بشئون النفس.
وإذا كان هذا في شأن الأبوين عامة، فإن الأم خاصة أحق بالرعاية لتأكيد القرآن والسنة الوصية بها.
قال تعالى: ” ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرًا ” (الأحقاف : 15).
” ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلى المصير ” (لقمان: 14).
وروى الطبراني في الصغير عن بريدة: أن رجلا جاء إلى النبي –صلى الله عليه وسلم-، فقال : يا رسول الله، إنى حملت أمي على عنقي فرسخين في رمضاء شديدة، لو ألقيت فيها بضعة لحم لنضجت، فهل أديت شكرها ؟ قال : ” لعله أن يكون لطلقة واحدة ” (رواه الطبراني في الصغير، وفيه : الحسن بن أبي جعفر، وهو ضعيف من غير كذب، وليث بن أبى سليم مدلس . كما في مجمع الزوائد للهيثمي 8/ 137).
وحكوا أن رجلا قال لعمر بن الخطاب : إن أمي قد بلغت من الضعف والهرم بحيث لا تقضى حاجتها إلا وظهري لها مطية – يعنى أنه صنع لها ما كانت تصنع هي له – فهل وفيت ديني لها ؟ قال : إنك تصنع لها ذلك، وترتقب موتها غدًا أو بعد غد، أما هي فكانت تصنع ذلك لك، وهى ترجو لك عمرًا طويلاً !
وتزداد مسئولية الأهل عن المريض إذا كان فاقد الأهلية، مثل الطفل، ولا سيما غير المميز والمجنون، لما يحتاج إليه كل منهما من رعاية مكثفة، وعناية بالغة.
فالإنسان المميز والعاقل يستطيع أن يطلب ما يريده، ويشرح ما هو في حاجة إليه، ويستعجل طلبه إذا تأخر عنه، ويُقنِع من يقوم على علاجه أو تمريضه بضرورته، أما الطفل أو المجنون أو من في حكمهما، فلا يمكنه شيء من ذلك، ومن ثم يتضاعف العبء على أهله، فعليهم أن يكونوا في غاية اليقظة لحالته الصحية، وما يعطى له من أدوية موصوفة في مواعيدها المنتظمة، وما قد يطرأ عليه من تطورات تحتاج إلى عرضه على الطبيب المعالج، أو إدخاله مستشفى متخصصًا أو غير ذلك مما لا يمكن حصره وضبطه من الأحوال.

المريض مرضًا نفسيًا:
ومما ينبغي التنبيه عليه هنا : المريض مرضًا نفسيًا، فإن كثيرًا من الناس حتى أهل المريض نفسه، وأقرب الناس إليه يغفلون عنه، ولا يهتمون بحقوقه عليهم ؛ لأنهم لا يرون عليه أي أثر لمرض عضوي، فيضعونه في زمرة الأصحاء، وهو غير صحيح.
ونظرًا لأن مرضه غير مشاهد ولا ملموس، وإنما يتعلق بوجدانه ومشاعره وأحاسيسه، أو بأفكاره ونظرته إلى الناس والحياة، فينبغي مراعاة ذلك في التعامل معه، والتدقيق في الكلمة والنظرة معه، والاستئناس في ذلك برأي الطبيب المختص.