في خِضَمِّ السُّعار المحموم لمُطالَبة المرأة بحقوقها، قد تنسى المرأة ذات الزوج أو تَتَناسَى حقًّا أوجبه الشرع عليها لزوجها، ألا وهو حقه عليها في القيام على شؤون بيته ورعايته، والعمل فيه، وهذا الحق وردت به السنَّة المطهَّرة وآثار الصحابة، وجرى به العُرْف في كل العصور ، فقد رُوِيَ عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: “كلُّكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، والأمير راعٍ، والرجل راعٍ على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده

وقد كانت أمهات المؤمنين ـ رضي الله عنهن ـ يخدمن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بيوتهن.

فهذه عائشة لا تكتفي بخدمته في بيتها، وإنما كانت تقوم كذلك على تمريضه وإعداد الدواء له؛ إذ رُوِيَ عن هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ قَالَ: كَانَ عُرْوَةُ يَقُولُ لِعَائِشَةَ: يَا أُمَّتَاهُ لَا أَعْجَبُ مِنْ فَهْمِكِ أَقُولُ: زَوْجَةُ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَبِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، وَلَا أَعْجَبُ مِنْ عِلْمِكِ بِالشِّعْرِ وَأَيَّامِ النَّاسِ، أَقُولُ ابْنَةُ أَبِي بَكْرٍ، وَكَانَ أَعْلَمَ النَّاسِ أَوْ وَمِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ، وَلَكِنْ أَعْجَبُ مِنْ عِلْمِكِ بِالطِّبِّ: كَيْفَ هُوَ وَمِنْ أَيْنَ هُوَ قَالَ فَضَرَبَتْ عَلَى مَنْكِبِهِ وَقَالَتْ: أَيْ عُرَيَّة،ُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَانَ يَسْقَمُ عِنْدَ آخِرِ عُمْرِهِ أَوْ فِي آخِرِ عُمْرِهِ فَكَانَتْ تَقْدَمُ عَلَيْهِ وُفُودُ الْعَرَبِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَتَنْعَتُ لَهُ الْأَنْعَاتَ وَكُنْتُ أُعَالِجُهَا لَهُ فَمِنْ ثَمَّ “.

وهذه زينب بنت جحش لم تقتصر على القيام بأعمال بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المُعتادَة، بل قامت بدبغ الجلد، لينتفع به وهو في بيتها، وهو عمل لا تقوم به النساء في زماننا، فقد رُوِيَ عن جابر أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأى امرأة، فأتى امرأته زينب وهي تمعس منيئة لها، فقضى حاجته ثم خرج إلى أصحابه…”، والمعس: هو الدلْك، والمنيئة: هو الجلد أول ما يُدبَغ، وقد قامت زينب أيضًا بصنع الطعام لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبعثت به إليه في صحفة مع خادم لها، وهو في بيت عائشة، التي ضربت يد الخادم فأوقع الصحفة فكُسِرَت

وكانت سيدة نساء العالمين السيدة فاطمة الزهراء ـ رضي الله عنها ـ تقوم على رعاية بيت علي ـ كرم الله وجهه ـ والعمل فيه حتى مَجَلَت يداها وتورمت وتهتكت راحتاها من كثرة مُعالجة الرَّحَى، فذهبت إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تشكو إليه ما تلقَى في يديها من الرحى؛ علَّه يأذن لها بمَن يُساعدها في خدمة البيت من السبي، إذا رُوِي عن علي أنه قال لفاطمة ذاتَ يوم: “والله لقد سَنَوْتُ حتى اشتكيتُ صدري، وقد جاء الله أباك بسَبْي فاذهبي فاستخدميه، فقالت: وأنا والله لقد طحنتُ حتى مَجَلَت يدايَ، فأتت رسول الله، صلى الله عليه وسلم: فقال: ما جاء بك أي بُنَيَّة؟ قالت: جئتُ لأسلِّم عليك، واستَحْيَتْ أن تسأله ورجعت، فقال لها علي: ما فعلتِ؟ قالت: استَحْيَيْتُ أن أسأله، فأتَيَا جميعًا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال علي: يا رسول الله قد سَنَوْتُ حتى اشتكيتُ صدري، وقالت فاطمة: قد طحنتُ حتى مجَلَتْ يداي، وقد جاءك الله بسبي وسَعة، فأخدمنا، فقال، صلى الله عليه وسلم: والله لا أعطيكم وأدَع أهل الصفَّة تُطوَى بطونهم من الجوع لا أجد ما أنفق عليهم، ولكن أبيعُهم وأنفق عليهم أثمانَهم فرجَعا “

وإذا كان هذا هو حال زوجات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بيوتهن، وقد كان بوُسْعِه ـ لو كان خِدْمة المرأة في بيت زوجها غير واجبة ـ أن يتخذ لزوجاته مَن يقوم على خدمتهن في بيوتهن، ويَكفِيَهن عَناء القيام على شؤون هذه البيوت، أو يأمر السيدة فاطمة بترك العمل في منزل زوجها حتى يُدَبِّر لها مَن يريحها من مُعالجة الرحى أو القيام على شؤون البيت، بعد أن رأى ما فعلته الرحى في يد ابنته، وهذا كله دليل على وجوب هذه الرعاية على الزوجة حقًّا لزوجها.

وكذلك كانت زوجات الصحابة، يخدمن في بيوت أزواجهن، ويقمن على رعايتها والاهتمام بأمرها، ومن هؤلاء.

أسماء بنت أبي بكر التي قالت: تَزَوَّجَنِي الزُّبَيْرُ وَمَا لَهُ فِي الْأَرْضِ مِنْ مَالٍ وَلَا مَمْلُوكٍ وَلَا شَيْءٍ غَيْرَ ناضح وغير فَرَسِهِ، فَكُنْتُ أَعْلِفُ فَرَسَهُ، وَأَسْتَقِي الْمَاءَ وَأَخْرُزُ غَرْبَهُ وَأَعْجِنُ، وَكُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ الَّتِي أَقْطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى رَأْسِي وَهِيَ مِنِّي عَلَى ثُلُثَيْ فَرْسَخٍ، فَجِئْتُ يَوْمًا وَالنَّوَى عَلَى رَأْسِي، فَلَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ الأَنصْار فَدَعَانِي ثُمَّ قَالَ: إِخْ إِخْ؛ لِيَحْمِلَنِي خَلْفَهُ، فَاسْتَحَيَيْتُ أَنْ أَسِيرَ مَعَ الرِّجَالِ وَذَكَرْتُ الزُّبَيْرَ وَغَيْرَتَهُ، فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنِّي قَدِ اسْتَحيَيْتُ فَمَضَى “.

فإذا علمنا أن أخت السيدة عائشة كانت ترعى شؤون بيت زوجها على هذا النحو، حتى أنها كانت لَتَقطع مسافة ثماني كيلو مترات ذهابًا وإيابًا، لاجتلاب النوى من أرض الزبير لعلف الناضح والفرس، وقد رآها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأقرَّها على صنيعها هذا، فإن هذا يدل على تعلُّق هذا الحق بها لزوجها، ولقد جرى عُرْف الناس بأن خدمة البيت بما يَلِيق بحال الزوج واجبة على زوجته، وهذا هو ما يقتضيه تفرُّغ الزوج لاكتساب أسباب الحياة لزوجته وأولاده، باعتباره المسؤول عن ذلك أمام الله سبحانه.

فلا ينبغي أن تنسى المرأة أو تتناسى في زحمة المُطالبة بحقوقها، ما أوجبَه الشرع عليها من حقوق تجاه زوجها، ومنها هذا الحق الذي ذُكِر آنفًا.