حكم تفضيل الأبناء الذكور على الإناث في التركة :

يقول الأستاذ . د. مصطفى الزرقا رحمه الله تعالى: الحكم في هذه القضية يَختَلف بين الشرع و القانون:

أ ـ ففي حكم القانون (الذي هو قضائي دنيوي محض لا دخل فيه للدِّيانة) يَستقل الأولاد الذكور بما سُجِّل على اسمهم من عَقارات أبيهم في حياته وحال صِحَّه لنفاذ تصرُّفاته، ولا يُورَث عنه بعد وفاته إلا ما سِوى ذلك من أمواله التي خَلَّفها؛ لأن ما سَجَّله في حياته لأولاده قد خَرج من نِطاق أمواله، وأصبح مِلكًا حرًّا لمن سُجِّل لهم في السجل العقاري، وليس لإخوانهم أنْ يُنازعوهم في شيء منها، سواء أكان تسجيلها للذكور على سبيل البيع ثم الإبراء عن الثمن أو الاعتراف بقَبضه، أو على سبيل الهِبَة رأسًا.

ب ـ وأمّا في حكم الشريعة الإسلامية التي نَدين بها؛ فإن لهذه الحادثة حكمين: حكمًا في القَضاء وحكمًا في الدِّيانة، أي: حكمًا يَقضي به القاضي عند الخُصومة إذا تَقاضَى إليه الطرفان في هذه الدنيا، وحكمًا يحكم به أحكم الحاكمين في الآخرة.

1 – فحكم القضاء الدنيوي شرعًا في هذه القضية هو كحكم القانون الوضعي الذي بَيَّنْتُه لكم آنفًا، فالقاضي يجب أنْ يقضي بمِلكية من نَقل الوالد إليهم من أولاده ملكية بعض عَقاراته أو كلِّها نقلاً صحيحًا في حياته وحال صحته ونَفاذ تَصرُّفاته، وبِمنْع كل مُعارَضة أو مُزاحَمة لهم من الإخْوة أو الأخوات الآخرين في هذه الحياة الدنيا؛ لأنَّ القضاء في الإسلام يَقوم على أساس الأسباب الظاهرة كما في القانون الوضعي تمامًا، ويترك ما وراء ذلك إلى حكم الدِّيانة، أي: حكم الله تعالى في الآخرة.

2 – وفي حكم الدِّيانة الذي يُحاسِب الله تعالى عليه في الآخرة يُعتبر تفضيل الوالد في حياته بعض أولاده على بعض من ذكور وإناث في العَطِيَّة عملاً محظورًا منهيًّا عنه، يَكتَسِب به الوالد الإثم، لقوْل الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ: “ساوُوا بين أولادكم في العَطِيَّة، ولو كنت مفضِّلاً أحدًا لفضلتُ النساء على الرجال”(1) وفي حديث النعمان بن بَشِير: “اتقوا الله واعْدلوا في أولادكم”(2) قال ابن عابدين ـ رحمه الله ـ في بحث مراعاة شرط الواقِف من كتاب الوَقْف في حاشية “رد المحتار” عند البحث في قول الواقف (على الفريضة الشرعية) بعد إيراده الأحاديث المذكورة ـ ما نَصُّه: “فالعدل في العَطَايا من حقوق الأولاد ، والوَقْف عَطِيَّة، فيُسوَّى بين الذَّكَر والأُنْثَى، لأنهم فَسَّروا العدل في الأولاد بالتسويَة في العَطَايا حال الحياة”.

ثم نقل ابن عابدين ـ رحمه الله ـ اختلاف أئمة المذهب الحنفي وفقهائه فيما إذا أَعْطَى الشخص في حياته للذَّكَر من أولاده ضِعف الأنثى، كما في حالة الميراث، هل يُعتبر هذا إخلالاً بالعدل الواجب؟، ورَأْيُ أبي حنيفة ـ رحمه الله تعالى ـ أنَّ هذا يُعتبر إخلالاً، فلا يَجوز أْن يُؤْثر أحدًا من أولاده من ذَكَر أو أنثى بفضل العَطِيَّة، إلا إذا كان التفضيل لِسبب مُسَوَّغ شرعًا كزيادة فَضْل في الدِّين عند أحدهم. ورأَى أنَّ من جملة الأسباب المسوِّغة للتفضيل كون من فضله عاجزًا، أو مريضًا مزمنًا، أو طالِب عِلْم يَحتاج إلى النفقة، أو صغيرًا لم يَنَلْه من رِفْد الوالد في حياته ما نال إخوته الكِبار ونحو ذلك، فيَكُون التفضيل لهذه الأسباب بمقدار ما تَقتضِيه، هو الذي يُحقِّق العدل والمساواة، ويُتدارك به ما فات، وتُلبَّى به الحاجة المشروعة، أمّا على أساس إيثار الذُّكُور وحِرمان الإنَاث، أو على أساس إيثار مَن تَمِيل إليه نفْسه أكثر من غيره، أو إيثار أولاد زوجة على أولاد زوجة أخرى، أو نحو ذلك من البَواعث الانحرافيَّة، فهذا غير جائز شرعًا، وفاعِلُه آثِمٌ، وإنْ كان فِعله نافذًا قضاء في هذه الدنيا إذا كان تصرفًا مُنْجَزًا صادرًا من الوالد في حياته، وحال صحته الجسمية والعقلية. أما إذا كان في اختلال عقليٍّ، أو في مَرَض الموت، أو كان غير مُنْجَز، بل بطريق التصرف المضاف إلى ما بعد الموت، ففي أمْر صِحَّته أو نَفاذه في القضاء تفصيل لا مَحَلَّ لذِكْره الآن، لأنه غير مسئول عنه.

ماذا يفعل الأبناء إذا فضل والدهم الذكور عن الإناث في التركة :

إنَّ الإرْث بعد وفاة الوالد لا يَتناوَل قضاءً إلا الأموال التي لا تَزال على مِلْكه عند وَفاته، دون ما سَبَق تسجيله من العَقار لبعض أولاده. ولكنْ إذا رأى الإخوة الذكور الذين سَجَّل والدهم لهم في حياته عَقارات مَجانًا دون الإناث أنْ يُزيلوا الظلم الذي فَعله والدهم، فيشاطروا الإناث فيما حَرَمهن منه الوالد بهذا التسجيل، فذلك عَمَل منهم محمود شرعًا، وإن لم يكونوا مُلْزَمين به قَضاءً، فإنْ فعلوا ذلك فالعِبرة في هذه التسويَة لحالة العَقار التي كان عليها عندما سجَّله الوالد لهم، ويَتْبعها التحسينات الطارئة دون عمل أو نفقة من الولد الذي سُجِّل له العقار، كارتفاع القيمة الناشئ من تَحسُّن الأسعار أو شَقِّ بعض الطرق، أما التحسن الناشئ من عمل ذلك الولد أو نفقته، فقيمة هذا التحسن تكون لمن قام به، ولا يتبع العقار في تلك التسوية الاختيارية. وإذا لم يَشأ الذكور هذه التسوية طَوعًا واختيارًا، فإنْ كان التسجيل السابق في حياة الوالد للذكور حاصلاً بطريق الهِبَة، أو بطريق البيع ثم الإبراء عن الثمن، فليس لأخواتهم الإنَاث أيُّ حقٍّ قضائيٍّ تجاهَهم، ولكنْ يكُون الوالد مسئولاً بحكم الدِّيانة في الآخرة عما ارتَكب من إثْم بهذا العمل؛ الذي لم يَعدل فيه بين أولاده. وأمّا إذا كان التسجيل بطريق البيع والاعتراف من الوالد كَذِبًا بِقَبْض الثَّمَن منهم فإنَّ للإناث عندئذ بعد وفاة الوالد حقًّا قضائيًّا في تَحليف إخوتهن المُشتَرِين على أنهم قد دَفعوا الثَّمَن فعلاً إلى والدهم في حياته، أي: تَحليفهم على أنَّ الوالد ليس كاذبًا في إقراره بقبض الثَّمَن منهم، فإنْ لم يُحلَّفوا اعْتُبرَتْ ذِمَّتهم مشغولة بثمن، فيُقضَى عليهم به كمَديونِين للتَّرِكَة، ويكون الثَّمن المذكور كغيره من الأموال الباقيَة ميراثًا للجميع.

(1) قال الزَّيْلَعِيُّ في “نَصْب الراية”: 4/123 (6759): رواه سعيد بن منصور من حديث ابن عباس، وفيه سعيد بن يوسف. قال ابن عبد الهادي في “التنقيح”: وسعيد بن يوسف تَكَلَّم فيه أحمد وابن مَعِين والنسائي.

(2) رواه البخاري (2586)، ومسلم (1623) في الهبة، ويُنظر سنن النسائي في كتاب النُّحْل: 6/258 ـ 262 ذكر اختلاف ألفاظ الناقِلِين لخبر النعمان بن بشير في النحل.