لقد جاء الإسلام يدعو إلى عبادة الله وحده، ونبذ عبادة كل ما سواه ومن سواه من الآلهة المزعومين، والأرباب المزيفين، سواء كانوا من البشر أم من الجن أم أي عالم من عوالم المخلوقات العلوية والسفلية.

-إن روح الإسلام هو التوحيد، توحيد الربوبية ، وتوحيد الألوهية، الذي هو إفراد الله بالعبادة.

-وأن عنوان الإسلام هو تلك الكلمة العظيمة التي هي أفضل ما قاله محمد والنبيون من قبله “لا إله إلا الله” إحدى كلمتي الشهادة في الإسلام.

-إن سر الإسلام ـ على سعة تعاليمه ـ يتجلى في دستوره الخالد: القرآن الكريم.

-وسر هذا الدستور يتركز في فاتحته: أم القرآن والسبع المثاني.

-وسر هذه الفاتحة يتلخص في هذه الآية الكريمة: (إياك نعبد وإياك نستعين): أي لا نعبد شيئا ولا أحدا غيرك، ولا نستعين بكائن سواك.

-إن أول وصية في القرآن، وأول مبدأ يبايع عليه الرسول كل من اعتنق دينه أن (اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا).

-وأول ما دعا إليه رسول الإسلام ملوك الأرض وأمراءها هو هذه القضية الكبرى: أن يعبد الله وحده لا شريك له، وأن تطرح الآلهة والأرباب التي اتخذها الناس من دون الله، فأذلوا أنفسهم لمن لا يستحق الذل والخضوع.

ومن هنا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يختم رسائله إلى قيصر والنجاشي، وغيرهما من أصحاب الملك والإمارة بهذه الآية الكريمة من سورة آل عمران: (يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم: ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، فإن تولوا فقولوا: اشهدوا بأنا مسلمون).

بل أكد القرآن أن هذه الدعوة هي دعوة الرسل جميعا، فكلهم دعا قومه إلى عبادة الله وحده، واجتناب عبادة الطاغوت، وكل ما عبد من دون الله فهو طاغوت، فهما مبعودان لا ثالث لهما: إما الله وإما الطاغوت. ومن استكبر عن عبادة الله سقط ـ حتما ـ في عبادة الطاغوت.
قال تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت).
وقال سبحانه مخاطبا خاتم رسله محمدا صلى الله عليه وسلم: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه: أنه لا إله إلا أنا فاعبدون).

-شدد الإسلام حملته على الشرك، وقعد له كل مرصد، وحاربه بكل سلاح، وقرر أنه الإثم العظيم، والضلال البعيد، والجرم الأكبر، والذنب الذي لا يغتفر. (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله، فقد افترى إثما عظيما) (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا).

وفي الصحيح: “من مات وهو يدعو من دون الله ندا دخل النار”، “ومن لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار”.
كل ذنب يمكن أن يغفره الله بفضله وكرمه، ويمكن أن يقبل فيه شفاعة الشافعين، إلا الإشراك بالله تعالى.
في الحديث القدسي: “يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا، لأتيتك بقرابها مغفرة!.
ففي هذه الآيات والأحاديث أن أهل التوحيد الخالص ـ الذي لا يشرك صاحبه بالله شيئا أي شيء ـ يعفى لهم ما لا يعفى لغيرهم، لأن التوحيد المحض يحرق الذنوب والخطايا وإن كانت مثل زبد البحر، كما أن الشرك يمحق الحسنات وإن كانت عدد الرمل.
لقد كان الإسلام على الحق ـ كل الحق ـ حين وقف موقفة الصارم من الشرك بكل أنواعه. وحرم ـ أشد التحريم ـ أو توجه العبادة إلى غير الله جل ثناؤه.

فالعبادة ـ كما قال ابن سيده ـ نوع من الخضوع لا يستحقه إلا المنعم بأعلى أجناس النعم، كالحياة والفهم والسمع والبصر، لأن أقل القليل من العبادة يكبر عن أن يستحقه إلا من كان له أعلى جنس من النعمة، ألا وهو الله سبحانه، فلذلك لا يستحق العبادة إلا الله.

وقال الإمام الرازي:
إن العبادة عبارة عن نهاية التعظيم، وهي لا تليق إلا بمن صدر عنه غاية الإنعام، وأعظم وجوه الإنعام: الحياة التي تفيد المكنة من الانتفاع، وإليها الإشارة بقوله تعالى: (وقد خلقتك من قبل و لم تك شيئا) وقوله: (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم..؟ الآية). وخلق ما ينتفع به من الأشياء وإليها الإشارة بقوله تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا).
ومثله قوله سبحانه: (ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة).
والحقيقة التي لا ريب فيها أن النعم التي تحيط بالإنسان في كل أطوار حياته، وتغمره من قرنه إلى قدمه، إنما هي من عند الله، كما قال سبحانه: (وما بكم من نعمة فمن الله).

يقول ابن القيم في “شفاء العليل”:
“الرب تبارك اسمه، وتعالى جده ولا إله غيره ـ هو المنعم على الحقيقة بصنوف النعم، التي لا يحصيها أهل سماواته وأرضه.

-فإيجادهم نعمة منه..

-وجعلهم أحياء ناطقين نعمة منه..

-وإعطاؤهم الأسماع والأبصار والعقول نعمة منه..

-وإدرار الأرزاق عليهم ـ على اختلاف أنواعها وأصنافها ـ نعمة منه..

-وتعريفهم نفسه بأسمائه وصفاته وأفعاله نعمة منه..

-وإجراء ذكره على ألسنتهم، ومحبته ومعرفته على قلوبهم، نعمة منه..

-وحفظهم بعد إيجادهم نعمة منه..

-وقيامه بمصالحهم دقيقها وجليلها نعمة منه..

-وهدايتهم إلى أسباب مصالحهم ومعايشهم نعمة منه..

-وذكر نعمه تعالى على سبيل التفضيل لا سبيل إليه ولا قدرة للبشر عليه”.
فلهذا كان هو وحده الجدير بأن يعبد، ولا يشرك معه أحد ولا شيء في الأرض أو في السماء.

لم يكن الإسلام متعنتا ولا متزمتا إذن، حين قاوم الشرك إلى هذه الدرجة.

-فالشرك ـ في الحقيقة ـ هوان لا يليق بكرامة الإنسان، وأي هوان يصيب الإنسان أشد من هذا الشرك الذي يسخر الإنسان المكرم للحيوان والجماد، ويخيفه مما لا يخاف، ويرجيه فيما لا يرجى؟!

-ثم إن الشرك ـ فضلا عما فيه من انحطاط وقذارة وهوان بالإنسان ـ هو كذب على الحقيقة، وتزوير على الواقع، وصدق الله: إذ يقول: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان، اجتنبوا قول الزور، حنفاء لله غير مشركين به، ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق).

أعلن الإسلام الحرب على هذا الشرك الضال المضل بكل ألوانه وأصنافه، ورفع من قيمة الإنسان، وأعلن أنه المخلوق المكرم المفضل المستخلف لله في الأرض، المصور في أحسن صورة وأحسن تقويم.
قال تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر).

وقال تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة).

وقال تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم).

وقال تعالى: (وصوركم فأحسن صوركم).

وقال تعالى: (علم الإنسان ما لم يعلم).

وقال تعالى: (وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه).

فكيف يسجد الإنسان لهذه المخلوقات وهي له مسخرة، وفي مصلحته وخدمته مذللة؟

وكيف يسجد لها وقد سجدت الملائكة بأمر الله تحية له واحتفاء به (إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين، فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس).

أعلن الإسلام أنه ليس في العالم المخلوق شيء يستحق أن يسجد له الإنسان أو يتضرع إليه أو يرجوه أو يخشاه!

فالملائكة عباد لله خاشعون خاضعون (لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون)

(لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون)

(لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعلمون، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون).

والبشر ـ وإن علا سلطانهم، أو عظم قدرهم، أنبياء كانوا أو سلاطين، هم أيضا عباد لله، لا يملكون لأنفسهم، فضلا عن غيرهم، ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا.

والعبودية هي الوصف اللازم لهم جميعا (إن كل من في السموات والأرض إلا آتى الرحمن عبدا، لقد أحصاهم وعدهم عدا، وكلهم آتيه يوم القيامة فردا).

والشمس والقمر والنجوم إن هي إلا كواكب مسخرات بأمره تعالى، لا يجوز أن ينحني صلب من أجلها راكعا، أو يخر وجه من أجلها ساجدا (ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون).

وكل ما يدعى من دون الله في الأرض أو السماء، هو مخلوق عاجز لا قدرة له، محتاج لا قيام له بذاته، ضعيف لا يقوى على حماية نفسه بله غيره

قال تعالى: (يأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له، إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له، وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه، ضعف الطالب والمطلوب، ما قدروا الله حق قدره، إن الله لقوي عزيز)

وقال تعالى: (قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا. أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه، إن عذاب ربك كان محذورا).

وقال تعالى: (إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين).