لا تعارض بين المحبة والخشية والرجاء فمن الغلط في فهم حقيقة العبادة: الظن أن المحبة تنافي أدب العبودية ولا تصاحب خشية الله ومخافته التي يجب أن يتصف بها كل عبد الله. وكذلك الظن أن المحبة لا تتحقق من المخلوق للخالق، إنما المطلوب منه الطاعة والخضوع فقط.

والحقيقة أن المحبة لا تنافي الخشية والمخافة، بل الخوف لازم للمحبة كما قال ابن تيمية، إذ ليس عند القلب السليم أحلى ولا ألذ ولا أطيب ولا أسر ولا أنعم من حلاوة الإيمان المتضمن عبوديته لله، ومحبته له وإخلاصه الدين له، وذلك يقتضي انجذاب القلب إلى الله، فيصير القلب منيبًا إلى الله، خائفًا منه، راغبًا راهبًا، كما قال تعالى: (من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب) إذ المحب يخاف من زوال مطلوبه أو عدم حصول مرغوبه، فلا يكون عبد الله ومحبه إلا بين خوف ورجاء، كما قال تعالى (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورًا).

ويؤكد ابن تيمية في غير موضع من رسالة “العبودية” أن المحبة جزء لا يتجزأ من حقيقة العبودية مستدلاً على ذلك باللغة والشرع قال: “ولفظ العبودية يتضمن كمال الذل وكمال الحب، فإنهم يقولون: قلب متيم إذا كان متعبدًا للمحبوب، والتتيم: التعبد، وتيم الله: أي عبد الله، وهذا على الكمال حصل لإبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم”.

وفي موضع آخر يقول:

“إنما الدين الحق هو تحقيق العبودية لله بكل وجه، وهو تحقيق محبة الله بكل درجة وبقدر تكميل العبودية تكمل محبة العبد لربه، وتكمل محبة الرب لعبده، وبقدر نقص هذا يكون نقص هذا، وكلما كان في القلب حب لغير الله كانت فيه عبودية لغير الله بحسب ذلك، وكلما كان فيه عبودية لغير الله كان فيه حب لغير الله بحسب ذلك”.

وكل محبة لا تكون لله فهي باطلة، وكل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل، فالدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان لله، ولا يكون لله إلا ما أحبه الله ورسوله، وهو المشروع.

وكل عمل أريد به غير الله لم يكن لله، وكل عمل لا يوافق شرع الله لم يكن لله، بل لا يكون لله إلا ما جمع وصفين:

أن يكون لله.

وأن يكون موافقًا لمحبة الله ورسوله، وهو الواجب والمستحب”.

ومن السلف من لم ينكر حقيقة المحبة وإنما أنكر ادعاءها والانبساط في هذه الدعوى بما لا يليق بمقام العبودية، وجلال الربوبية.

ومن علماء الكلام من ذهب إلى أن المحبة لا تجوز في حق الله، وتأول ما جاء في الكتاب والسنة، ومن ذلك بأن المراد به الطاعة، فالعبودية هي الذل والخضوع لله سبحانه لا غير.

وفي الرد على هؤلاء يقول ابن تيمية بعد أن ذكر أن الخلة والمحبة لله تحقيق عبوديته:

“وإنما يغلط من يغلط في هذه من حيث يتوهمون أن العبودية مجرد ذلك وخضوع فقط، لا محبة معه، وأن المحبة فيها انبساط في الأهواء، أو إذلال لا تحتمله الربوبية، ولهذا ذكر عن ذي النون: أنهم تكلموا عنده في مسألة المحبة، فقال: أمسكوا عن هذه المسألة، لا تسمعها النفوس فتدعيها”.

“وكره من كره من أهل المعرفة والعلم مجالسة أقوام يكثرون الكلام في المحبة بلا خشية، وقال من قال من السلف: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف فهو حروري، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء، فهو مؤمن موحد”.

والذي دعا هذا القائل من السلف إلى اتهام من عبد الله بالحب وحده بالزندقة والمروق إنما هو غلو فريق من الناس انتهى به المطاف في دعوى الحب لله أن زعم لنفسه أنه وصل إلى حال مع الله لم تعد فيها لتكاليف الشرع فائدة عنده، فقد عبد ربه حتى أتاه اليقين! وليس بعد اليقين شيء، فسقط عنه الأمر والنهي، وأحل له شرب الخمر والمعاصي!!

وهذا الصنف هو الذي قال فيه الإمام الغزالي: هذا ممن لا شك في وجوب قتله، وقتل مثل هذا أفضل من قتل مائة كافر، إذ ضرره في الدين أعظم، وينفتح به باب من الإباحة لا ينسد. وضرر هذا فوق ضرر من يقول بالإباحة مطلقا، فإنه يمنع عن الإصغاء إليه ظهور كفره، وأما هذا فإنه يهدم الشرع من الشرع! ويزعم أنه لم يرتكب فيه إلا تخصيص عموم، إذ خصص عموم التكليفات بمن ليس له مثل درجته في الدين، وربما يزعم أنه يلابس ويقارف المعاصي بظاهره وهو بباطنه برئ عنها!.

على أن الغزالي إن توقف هنا في تكفير هذا الصنف المدعي، فقد استدرك عليه ذلك من بعده، كابن حجر الهيثمي المكي الشافعي الذي جزم بكفره، لأنه منكر لقطعيات الدين وضرورياته.

ومن هنا عني ابن تيمية في بيانه حقيقة العبودية بذكر “الضوابط” التي تقف بالعبد عند حده ولا تشرد به عن سواء الصراط تحت عنوان “محبة الله” يقول ابن تيمية:

“وإنما عبد الله من يرضيه ما يرضي الله، ويسخطه ما يسخط الله، ويحب ما أحبه الله ورسوله، ويبغض ما أبغضه الله ورسوله، ويوالي أولياء الله تعالى ويعادي أعداء الله تعالى، هذا هو الذي استكمل الإيمان، كما في الحديث: “من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان” وقال: “أوثق عرا الإيمان الحب في الله والبغض في الله”.

وفي الصحيح: “ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يلقى في النار.

فهذا وافق ربه فيما يحبه وما يكرهه، فكان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأحب المخلوق لله لا لغرض آخر، فكان هذا من تمام حبه لله، فإن محبة محبوب المحبوب من تمام محبة المحبوب، فإذا أحب أنبياء الله وأولياء الله لأجل قيامهم بمحبوبات الحق لا لشيء آخر، فقد أحبهم الله لا لغيره وقد قال تعالى: (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه، أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) ولهذا قال تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحبكم الله) فإن الرسول لا يأمر إلا بما يحب الله، ولا يخبر إلا بما يحب الله التصديق به.

فمن كان محبا لله لزم أن يتبع الرسول، فيصدقه فيما أخبر، ويطيعه فيما أمر، ويتأسى به فيما فعل، ومن فعل هذا فعل ما يحبه الله، فيحبه الله.

وقد جعل الله لأهل محبته علامتين: اتباع الرسول، والجهاد في سبيله، وذلك لأن الجهاد حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح، ومن دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان، وقد قال تعالى (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره).

فتوعد من كان أهله وماله أحب إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله بهذا الوعيد بل قد ثبت عنده صلى الله عليه وسلم في “الصحيح” أنه قال: “والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين.

وفي الصحيح أن عمر بن الخطاب قال: يا رسول الله، والله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال: لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال: فوالله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال: الآن يا عمر.

فحقيقة المحبة لا تتم إلا بموالاة المحبوب، وهو موافقته في حب ما يحب، وبغض ما يبغض، والله يحب الإيمان والتقوى، ويبغض الكفر والفسوق والعصيان.