شرع الله ـ سبحانه ـ في التعامل بين الناس أن تكون هناك احتياطات لحفظ الحقوق وعدم الجحود، فإنهم ليسوا جميعًا على قلب رجل واحد من الخوف من الله، ومن حبِّ الخير للغير كما يُحبونه لأنفسهم. ومن هذه الاحتياطات الإشهاد وكتابة الديون والدقة والأمانة وحسن اختيار الشهود، قال الله ـ تعالى ـ في آية الدَّيْن:( وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيْدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِن لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا ) (البقرة: 282 ) ثم قال تعالى:( وَلْيتَّقِِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُموا الشَّهادَةَ وَمَن يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُه ) ( البقرة : 283 ) هناك ثلاثة مواقف للشهادة على الدين:

1 – التطوّع بالشهادة.

2 – طلب الشهادة.

3 – أداء الشهادة.

يقول القرطبي عن الآية الأولى بالنسبة إلى الموقفين الأولين: قال ابن عطية: والآية ـ كما قال الحسن ـ جمعت أمرين على جهة الندب، فالمسلمون مندوبون إلى معونة إخوانهم، فإذا كانت الفسحة لكثرة الشهود والأمن من تعطيل الحقّ فالمدعو مندوب، وله أن يتخلّف لأدنى عذر، وإن تخلّف لغير عذر فلا إثم عليه ولا ثواب له.

وإذا كانت الضرورة وخيفَ تعطل الحق أدنى خوف قوي الندب وقرب من الوجوب، وإذا علم أن الحقّ يذهب ويتلف بتأخر الشاهد عن الشهادة فواجب عليه القيام بها، لاسيّما إذا كانت محصَّلة وكان الدعاء لأدائها، فإن هذا الظرف آكد؛ لأنها قلادة في العنق، وأمانة تقتضي الأداء. انتهى.

ومعنى هذا الكلام أن الإنسان يُندب له أن يشهد متطوعًا بدون أن يستدعيَه أحد للشهادة، وله أن يتخلف عنها لعذر أو لغير ذلك، ومحل ذلك إذا كان هناك شهود آخرون ولا يضيع الحق بتخلفه، أما إذا لم يكن إلا هو، والحد الأدنى لقبول الشهادة، وخيف ضياع الحقّ كان تقدُّمه للشهادة قويّ الندب وقرب من أن يكون واجبًا يحرم التخلّف عنه، أما إذا علم أن الحق يَضيع لو تخلف عن الشهادة وجب عليه التقدم للشهادة مادام ذلك ممكنًا، ويتأكد ذلك إذا طُلب منه أن يشهد، أي يتحمل الشهادة لإثبات الواقعة؛ لأن ذلك من باب نصرة المظلوم كما ثبت في الحديث:” انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا” ولقوله تعالى:( وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا).
وعلى هذا لا يتعلل الشاهد بالتأخُّر عن عمله، أو بالخوف على المخطئ من العقوبة، إذا وجب عليه أن يشهد في الصورة المتقدمة.

وتحمل الشهادة سواء تطوَّع بها أو دُعِيَ إليها، لا يتنافى مع حديث الصحيحين عن خير القرون، الذي جاء فيه” ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون” فإنّه محمول على ثلاثة أوجه كما قال القرطبي:

-أحدها: أن يُراد به شاهد الزور، فإنّه يشهد بما لم يستشهد، أي بما يتحمله ولا حُمِّله، ويؤيّد هذا الوجه حديث في فضل الصحابة ومن بعدهم جاء فيه:” ثم يفشو الكذب وشهادة الزور”.

-الوجه الثاني: أن يراد به المتطفل الشَّره النّهم على تنفيذ ما يشهد به،فيبادر بها قبل أن يسألها، فذلك دليل على هوى غالب عليه،

-الوجه الثالث أنهم الغلمان الصغار، كما قال النخعي.

أما الموقف الثالث للشهادة وهو أداؤها عند القاضي فله حالتان:

-الحالة الأولى: أن يتطوع بها أي يشهد دون أن يُستدعى.

– الحالة الثانية: أن يُستدعى لأدائها.

ففي الأولى يُندب له أن يتقدّم لأدائها، وفي حديث رواه أصحاب السنن:” خير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن يُسألها” وله ألا يشهد ما دام لم يُستدعَ، وذلك على النحو الذي سبق في تحمل الشهادة لا في أدائها، فإذا وُجِدَ شاهِدٌ غيره، ولم يكن هناك خوف على ضياع الحق كان حضوره لأدائها مندوبًا لا واجِبًا، فإن تعيّن هو للشهادة وجب الحضور حتى لو لم يُستدع.

وفي الحالة الثانية إذا استدعى فلا يجوز له التخلّف؛ لأن القضاء متوقّف على الشهادة، والتخلف عنها ضياع للحق، ودليل على ذلك قوله تعالى:( وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا ) فهو عام في التحمل والأداء. قال الحسن: جمعت هذه الآية أمرين، وهما ألا تأبى إذا دُعيت إلى تحصيل الشهادة، ولا إذا دُعيت إلى أدائها. وحملها قتادة والربيع وابن عباس على تحملها وإثباتها في الكتاب ـ أي الذي بين المتعاقدين ـ وحملها مجاهد على أدائها بعد تحصيلها أي تحملها. وقال: فأما إذا دعيت لتشهد أوَّلاً فإن شئت فاذهب وإن شئت فلا. وقاله جماعة آخرون، وعليه فلا يجب على الشهود الحضور، عند المتعاقدين.

وإذا حضر الشاهد أمام القاضي ليشهد عند الاستدعاء وغيره، وجب عليه أن يؤديها بأمانة، كما تحملها، ولا يجوز له أن يكتمها وينكر أنه تحملها، قال تعالى:( وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ) فالكتمان صادق بعدم أدائها، وبعدم الصدق فيها، أي بقول الزور.

والتعبير بقوله:( آَثِمٌ قَلْبُهُ ) إشارة إلى أن كاتم الشهادة وقع تحت تأثير قصد سيِّئ انطوى عليه قلبه، وأقل ما يكون من هذا القصد السيِّئ عدم حب الخير لأخيه، أو حب الشّرّ له والإضرار به، وذلك يتنافى مع الإيمان ففي الحديث:” لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه” رواه البخاري ومسلم.

وإذا كان الكتمان ناشئًا عن طمع في نوال شيء من أحد الطرفين، أو عن خوف منه، فإن الإيمان الحق يوجب أن يكون الرجاء هو فيما عند الله، فهو خير وأبقى، وأن يكون الخوف من الله وحده فهو القاهر فوق عباده، وقد أخذ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ العهد على أصحابه أن يقولوا الحق لا يخشَون فيه لومة لائم، قال تعالى:( يا أَيُّها الَّذينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَو الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَو فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الهَوى أَن تَعْدِلُوا وإِن تَلْووا أَو تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيْرًا ) ( سورة النساء : 135 ) .