يَستلزم بيان نقطتين : الأولى موقف العالم من هذه الزَّلَّة، والثاني موقف الناس منه.

وقبل الإجابة نُقرر أنه لا يوجد أحد معصوم من الخطأ إلا مَن عصم الله، فكل ابن آدم مُعرَّض لذلك ، وخير الخَطَّائين التَّوَّابون كما صح في الحديث .

كما نُقرر أن في الشريعة أمورًا متَّفقًا على حُكمها من الحِل أو الحرمة ، وأمورًا اختَلفت فيها الأقوال ، فما كان متَّفقًا على حُكمه لا تَجوز مخالفته ويجب التنبيه على هذه المُخالفة قيامًا بواجب النُّصح والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وما كان فيه خلاف يَنبغي لمَن اختار رأيًا والتزمه حتى ظن الناس أنه هو الصحيح ، ثم اختار رأيًا آخر أثار دهشة الناس أن يبين السبب في ذلك ، ليعلم الناس أن الحكم الخلافي لا يجب التزام رأي واحد فيه ، كما أن مَن علم أن المسألة فيها خلاف في الحكم لا ينبغي أن يعترض على مَن اتبع أي رأي من الآراء .

وقد تحدَّث الأمام النووي في كتابه “الأذكار” عن ذلك فقال : اعلم أنه يُستحب للعالِم والمعلِّم والقاضي والمفتي والشيخ المُربي وغيرهم ممن يُقتدى به ويؤخَذ عنه أن يجتنب الأفعال والأقوال والتصرفات التي ظاهِرُها خلاف الصواب ، وإن كان مُحقًّا فيها ؛ لأنه إذا فعل ذلك ترتَّب عليه مفاسد .

من جملتها توهُّم كثير ممن يَعلم ذلك منه أن هذا جائز على ظاهره بكل حال ، وأن يَبقى ذلك شرعًا وأمرًا معمولا به أبدًا .

ومنها وقوع الناس فيه بالتنقُّص واعتقادهم نقْصه وإطلاق ألْسنتهم بذلك .

ومنها أن الناس يُسيئون الظنَّ به فينفرون عنه، ويُنَفِّرون غيرهم عن أخذ العلم عنه، وتَسقط رواياته وشهادته، ويَبْطُل العمل بفتواه، ويذهب رُكُون النفوس إلى ما يقوله من العلوم.

وهذه مفاسد ظاهرة ، فيَنبغي له اجتناب أفرادها فكيف بمجموعها ؟

فإنِ احتاج إلى شيء من ذلك وكان مُحقًّا في نفس الأمر لم يُظهره ، فإن أظْهره أو ظَهر ، أو رأي المصلحة في إظهاره ليَعلم جَوازه وحُكم الشَّرع فيه فينبغي أن يقول : هذا الوجه الذي فعلْته ليس بحرام ، أو إنما فعلْته لتعلموا أنه ليس بحرام إذا كان على الوجه الذي فعلته ، وهو كذا وكذا، ودليله كذا وكذا .

واستدلَّ النَّوَوي على ذلك بما رواه البخاري ومسلم عن سهل بن سعد الساعدي ـ رضي الله عنه ـ قال: رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قام على المِنبر فكبَّر وكبَّر الناس وراءه ، فقرأ وركع، وركع الناس خلفه، ثم رفع ثم رجع القَهْقَرَى فسجد على الأرض ، ثم عاد إلى المنبر حتى فرغ من صلاته ، ثم أقبل على الناس فقال : “أيها الناس، إنما صنعْت هذا لتأتَمُّوا بي ولتعلموا صلاتي” .

والأحاديث في هذا الباب كثيرة كحديث صفيَّة حينما رآها مع الرسول على باب المسجد ليلةً فظَنَّ بعض المارَّة سوءًا فبادر وقال : ” إنَّها صفيَّة” أي ليست امرأة أجنبية ، وبيَّن لهم أن الشيطان يجري من دم ابن آدم مجْرى الدم ، فرُبما سوَّل لهم سوءًا في الظن .

وجاء في البخاري أن عليًّا ـ رضي الله عنه ـ شَرِبَ قائمًا وقال: رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فعل كما رأيتموني فعلت .

والمسألة الثانية أن على التابعين الآخذين عن هذا الشيخ إذا رَأَوْا منه شيئًا في ظاهره مخالفة لمعروف أن يسألوه عنه بنيَّة الاسترشاد ـ لا بنية النقد والاعتراض ـ فإنْ كان قد فعله ناسيًا تدارَكه ، وإن كان فعله عامدًا وهو صحيح في نفس الأمر بيَّنه لهم ، فقد روى البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد ـ رضي الله عنهما ـ قال: دفع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من عرفة ـ أي أفاض منها ـ حتى إذا كان بالشِّعب نزل فَبَالَ ثم توضَّأ : فقُلت : الصلاة يا رسول الله ، فقال: “الصلاة أمامك” .

يقول النووي: إن أسامة قال ذلك ؛ لأنه ظن أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نَسِيَ صلاة المغرب، وكان قد دخل وقتها وقَرُبَ خروجه .

كما روى البخاري ومسلم أن سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ قال : يا رسول الله مالك عن فلان ، والله إني لأراه مؤمنًا ؟

وروى مسلم عن بريدة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلَّى الصلوات يوم الفتح بوُضوء واحد ، فقال عمر: لقد صنعتَ اليوم شيئًا لم تكن تصنعه ، فقال : ” عمدًا صنعته يا عمر”، ونظائر هذا كثيرة في الصحيح .

فالخلاصة أن العالِم ومَن يُقْتدى به إذا ظهر منه قول أو فعل يرى المتعلمون أنه مُخَالف، ينبغي أن يُبيِّن لهم وجه الصواب، وينبغي لهم أيضًا أن يسألوه عن ذلك بأدب واحترام ولا يُبادروا بإساءة الظن به ، ولا يُعارضوا بأسلوب غير لائق .