إن المحافظة على الأسرار مرغوبة عقلاً وشرعًا، ومحاولة الاطلاع عليها بأية وسيلة من الوسائل حذَّر منها الشرع أشد التحذير، قال تعالى: (وَلَا تَجَسَّسُوا) (سورة الحجرات: 12) وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه البخاري “من استمع خبرَ قوْم وهم له كارهون صُب في أذنه الآنُك ـ أي الرصاص المُذاب ـ يوم القيامة” وفيما رواه أبو داود “لا يُسأل الرجل فيم ضرب امرأته” وفيما رواه أحمد ” إذا تناجي اثنان فلا يدخل بينهما الثالث إلا بإذنهما”.

وإفشاء الأسرار حرام ما لم تدع إليه ضرورة؛ لأنه ضرر، والإسلام لا ضَرر فيه ولاضِرار، والأسرار في خطورتها درجات، ومن أخطرها ما يكون بين الزوجين من الأمور الخاصة ففي حديث مسلم “إنَّ من أشر الناس منزلةً يوم القيامة الرجل يُفضي إلى المرأة وتفضي إليه ثم ينشر أحدهما سر صاحبه” وكذلك أسرار البيوت التي يطلع عليها الخدم ومن يترددون عليها، ومن أشدها خطرًا ما كان خاصًا بالدولة في الأمور التي لا ينبغي أن تطلع عليها دولة أخرى، وعلى الأخص عند توتر العلاقات، وقيام حالة الحرب بينهما فرب خبر بسيط يحرز به العدو نصرًا مؤزرًا إن حصل عليه، أو يهزم به هزيمة منكرة إن نُقل عنه>

ومن احتياطات الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا المجال أنه كان يرسل السرية لاستطلاع أخبار العدو، ومع قائدها كتاب لا يفضه إلا بعد مسيرة يومين ليعرف المكان الذي يتوجه إليه، حتى لا يتسرب الخبر إلى أحد من المدينة فيراسل العدو به، وكان إذا أراد غزوة ورَّى بغيرها، ومن أعظم ما أُثِرَ في عدم تمكين العدو من معرفة أسرار الدولة وصية أبي بكر لقائده شُرحبيل بن حسنة حيث قال له: وإذا قَدِمَ عليك رُسُلُ عدوك فأكرم مثواهم، وأقلل حبسهم حتى يخرجوا من عندك وهم جاهلون بما عندك، وامنع مَنْ قِبَلك من محادثتهم، وليكن أنت الذي تلي كلامهم، واستر في عسكرك الأخبار، وأصدق الله إذا لقيت، ولا تَجْبُن فيجبُن سواك.

ومع هذه الاحتياطات للأسرار بين عقوبة من يفشيها، فإلى جانب أنه خائن للأمانة التي استودعها ، غادر بالعهد الذي أُخِذَ عليه أن يصون السر، اختلف الفقهاء في قتله وبخاصة إذا اتخذ ذلك حرفة يعرف منها بأنه جاسوس، وذلك بناء على ما حدث من حاطِب بن أبي بَلْتَعَة حين أرسل خطابًا إلى أهل مكة بتوجه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليهم لفتحها، وشاء الله أن يضبط هذا الخطاب مع المرأة التي حملته، وقد اعتذر حاطب بأنه لم يُرْسِله كُفرًا بالله ولا رِدة عن الإسلام ولكن ليحمي أهله حيث لا نَسَبَ له في مكة يحميهم، كما يحمي غيرهم، وحين همَّ عمر بقتله منعه الرسول؛ لأنه شهد بدرًا ، ولعلَّ الله قال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غَفَرْتُ لكم.

وحيث لا يوجد للجاسوس ما يوجد لحاطب من هذه المنقبة، ذكر القرطبي في تفسيره أن من نقل أخبار المسلمين إلى العدو ولم يَسْتَحِلّ ذَلِكَ لم يُكفر، ويترك أمره إلى الإمام ليعاقبه بما يراه، وكما قال مالك وابن القاسم وأشهب ، وقال عبد الملك إذا كانت عادته تلك قُتِلَ؛ لأنه جاسوس ، ولإضراره بالمسلمين وسعيه بالفساد في الأرض، كالذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا، وعلى هذا الرأي بعض أصحاب أحمد وابن القيم ، والأحناف أجازوا قتله سياسةً، كما جاء في بعض كتبهم جواز قتل كل من يؤذي المسلمين ولا يرتدع إلا بقتله.