تحدَّث العُلماء عمَّا يُسَمى بالتَّعْريض والتَّورية، ومعناهما أن يُطْلِق الإنسان لفظًا يحتمل معنيَين، يكون ظَاهرًا في واحد منهما ويُريد هو المعنى الآخر، وهو نوع من الكَذِب فيه تغرير وخِداع.

يقول النووي في كتابه ” الأذكار” ص 380 في بيان حكمه: قال العلماء: فإن دَعت إلى ذلك مصلحة شرعية راجِحَة على خداع المُخَاطب. أو دعت إليه حاجة لا مَنْدُوحة عنه إلا بالكذِب فلا بأس بالتعْريض، فإن لم تدعُ إليه مصلحة ولا حاجة فهو مكروه وليس بحرام، فإن تُوُصِّل به إلى أخْذ باطل أو دفْع حقٍّ فيصير حينئذ حرامًا، وهذا ضابط الباب. ثم ذكر للتَّنفير منه حديثًا رواه أبو داود بإسناد فيه ضعف، لكن سكت عنه أبو داود فلم يَحْكُم بضعفه فيَقْتضي أن يكون حسنًا عنده، وهذا الحديث عن سُفيان بن أسيد ـ بفتح الهمزة ـ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول ” كبُرتْ خيانةً أن تُحَدِّث أخاك حديثًا هو لك به مُصدِّق وأنت به كاذِب. ثم ذكر مثالاً للتعْريض المباح قاله النخعي رحمه الله، وهو إذا بلَّغَ الرَّجُل عنك شيء قلتُه فقل: الله يعْلم ما قلت من ذلك من شيء فيتوهَّم السامع النفي المأخوذ من قوله: ما قلت من ذلك من شيء ومقصودك أن الله يعْلم ما قلْته وقال النَّخعي أيضًا: لا تَقُلْ لابنك: أشترى لك سكرًا، بل قل: أرأيت لو اشتريت لك سكرًا؟ وكان النخعي إذا طلبه رجل قال للجارية: إذا طلبني قولي له اطلبه في المسجد، وكان الشَّعبي يخط دائرة ويقول للجارية: إذا طلبني أحد فضعي إصبعك في الدائرة وقولي ليس هو هاهنا، ومثل هذا قول الناس في العادة لمَن دَعاه إلى الطعام: أنا على نيَّة، مُوهمًا أنه صائم، ومقصوده على نية ترك الأكل.

يقول النَّوَوي: لو حَلَفَ علَى شَيْء من هذا وورَّى في يَمِينِه لم يَحْنَثْ، سواء حَلَفَ بالله تعالى أو حلف بالطلاق أو غيره، فلا يقع عليه طلاق ولا غيره، وهذا إذا لم يُحَلِّفه القاضي في دعوى، فإن حَلَّفه القاضي في دعوى فالاعتبار بنية القاضي إذا حلفه بالله تعالى، فإن حلَّفه بالطلاق فالاعتبار بنية الحالف؛ لأنه لا يجوز للقاضي تحليفُه بالطلاق، فهو كغيره من الناس.
والإمام الغزالي في كتابه ” إحياء علوم الدين” ج3 ص117 تحدَّث عن الكذِب والأحوال التي يُرَخَّص فيها الكذب قد يكون واجبًا إذا ترتب عليه نجاة مسلم من قتل عدوٍّ له، مقرِّرًا هذه القاعدة:
الكلام وسيلة إلى المقاصد، فكلُّ مَقْصود محمود يمكن التوصُّل إليه بالصِّدْق وبالكذب جميعًا فالكذِب فيه حرام، وإن أمكن التوصُّل إليه بالكَذِب دون الصِّدْق فالكذب فيه مُباحٌ إن كان تحصيل ذلك القصد مُباحًا وواجب إن كان المقصود واجبًا. بعد ذلك حذَّر الغزالي من الكذب بالمعاريض، فنقل عن السلف قولهم: إن في المعارض مندوحةً عن الكَذِب، ونُقل عن عُمَر ـ رضي الله عنه ـ قولُه: أمَّا في المعاريض ما يكفي الرجل عن الكذب؟ وروى ذلك عن ابن عباس وغيره، وأجازه فقط عند الضرورة، فإذا لم تكن حاجة أو ضرورة فلا يجوز التَّعْريض ولا التصريح جميعًا، ولكنَّ التعريض أهْون.

وذكر الغزالي أمثلة على جَوَاز التَّعْريض منها ما نقله النووي فيما سبق، ثم ذكر من الأمثلة قول النبي لامرأة عجوز ” لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ عَجُوزٌ” فبكت فبيَّن لها أنَّها لا تكون عنْد دخول الجنَّة عجوزًا، وتلا قوله تعالى(إنَّا أنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً . فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا . عُرُبًا أَتْرَابًا) (سورة الوقعة 35-37)، وهَذا الحديث مُرْسَل ذَكَرَهُ الترمذي في الشمائل وأسنده ابن الجوزي بسند ضعيف، ومثله قول امرأة له: احْمِلْنِي عَلَى بَعِير، فقال ” بل نحملك على ابن البعير” فقالت: ما أصنع به؟ إنه لا يحملني، فقال “ما من بعير إلا وهو ابن بعير” رواه أبو داود والترمذي وصحَّحه عن أنس بلفظ ” أنا حاملك على ولد الناقة”.

والقرطبي في تفسيره “ج10 ص190” ذَكَر ما نقله النووي عن الغزالي، وذكر ابن عبد ربه في كتابه ” العقد الفريد” ج1 ص204 طبعة 1316 هـ أن الله كنَّى عن الجِماع بالمُلامسة وعن الحَدَث بالغَائِط وعن البَرَص بقوْله لموسى (واضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ)(سورة القصص : 32)،

وَمِمَّا يتصل بهذا الموضع ما روتْه كتبُ الأدَب أن الحَجَّاج بن يوسف الثَّقَفِيَّ مرَّ مع حاجِبِه في وقْت متأخِّر من الليل: وكان قد نهى عن الخروج في هذا الوقت، فوجد ثلاثة فِتْيان سُكَارى، فأمر حاجبه أن يسألهم: من أنتم حتى خرجتم في هذا الوقت؟

فقال أولهم:
أنَا ابْن مَن دانَتِ الرِّقابُ لهُ مَا بَيْنَ مَخْزُومِهَا وَهَاشِمِهَا
تَأْتِيهِ بِالرَّغْمِ وَهْيَ صَاغِرَةٌ يَأْخُذُ مِنْ مَالِهَا وَمِنْ دَمِهَــــا

فقال لعلَّه من أشراف بنى هاشم أو مخْزوم.

ثم سأل الثاني فقال:
أنا ابنٌ لمَنْ لا تَنْزِل الدَّهْرَ قِدْرُهُ وإنْ نَزَلَتْ يَوْمًا فسوف تعودُ
تَرَى النَّاس أفواجًـــا إلى ضَوْءِ نَارِهِ فَمِنْهُمْ قِيَامٌ حَوْلَهَا وَقُعُودُ

فقال: لعلَّهُ من أجْوَادِ العرب.

ثم سأل الثالث فقال:
أنا ابنٌ لمن خاضَ الصِّعابَ بِعَزْمِهِ وقوَّمَها بالسيف حتى تَوَلَّتِ
رِكَابَاه لا يَنْفَكُّ رِجْلَاه فِيهِمَا إِذَا الْخَيْلُ فِي يَوْمِ الْكَرِيهَةِ وَلَّــــــتِ

فقال: لعله ابن فارس من العرب، فتركهم، ثم سأل عنهم بعد ذلك، فعرف أن الأول ابن حَجَّام، والثاني ابن فوَّال بائع فول، والثالث ابن حائك أي نَسَّاج، فقال: لولا فصاحتُهم لقَتَلْتُهُم.