جاء في إحياء علوم الدين للإمام الغزالي في فضل الكسب والحثّ عليه ما نصه:

وروى أن عيسى ـ عليه السلام ـ رأى رجلاً فقال: ما تصنع؟ قال: أتعبد، قال: مَن يَعولُك؟ قال: أخي، قال: أخوك أعبدُ منك.

قال الغزالي: هذا الكلام ولم يجعله حديثًا عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومثل ذلك ما روى أن قومًا من الأشعريّين كانوا في سفر، فلما قدِموا على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ “قالوا: ما رأينا بعدَك أفضلَ من فلان” كان يصوم بالنهار، فإذا نزلنا قام الليل حتى نرتَحِل، فقال: “ومَن كان يكفُلُه ويخدُمه” قالوا: كلُّنا، فقال “كلُّكم أفضلُ منه” وهو موجود في كتاب “العقد الفريد” لابن عبد ربِّه، وليس فيه سند له.

وتحدّث الغزالي في باب التوكُّل، وفصَّل أحوال المتوكِّلين، ثم ذكر أن الرجل المتوكِّل على الله إذا تعلَّق قلبه بالدنيا والكسب كان العمل له أفضل من الانقطاع عنه إلى التعبُّد والانزواء والكسل، أما إذا قوى إيمانه بالله وتوكل عليه، ولم يتعلق قلبه بالدنيا، فالانقطاع إلى العبادة أفضل، على ألا يكون لأحد مِنَّة عليه في شيء من رِزقه.

ومع ذلك فالغزالي يتحدّث عن عصره وله ظروفه.

أما الآن فالواجب هو التنسيق بين عمل الدنيا وعمل الآخرة، فهما أمران لابد منهما، وذلك على نسق ما قاله الله تعالى: (وابْتَغِ فِيمَا آَتاكَ اللهَ الدّارَ الآخِرةَ ولا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِن الدُّنْيا) (سورة القصص : 77) وقوله تعالى: (فإِذَا قُضِيَتِ الصّلاةُ فانْتَشِرُوا في الأرضِ وابتَغُوا مِن فَضْلِ اللهِ واذكُروا اللهَ كَثِيرًا لَعلَّكُم تُفْلِحونَ) (سورة الجمعة : 10) وقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ “إنَّ لربِّكَ عليك حَقًّا ولِبدَنك عليك حقًّا ولأهلك عليك حقًّا فأعطِ كلّ ذي حقٍّ حقَّه” رواه البخاري.

وذلك ما يوحي إليه قوله تعالى في قيام الليل والاقتصاد فيه (عَلِمَ أَنْ سَيكون منكم مَرْضَى وآخَرون يَضرِبونَ في الأرضِ يَبْتغونَ مِنْ فَضِل الله وآخَرون يُقاتِلونَ في سَبيلِ الله فاقْرءوا ما تيَسَّرَ مِنْهُ ) (سورة المزمل : 20) وتوضيح ذلك في كتابي “الإسلام دين العمل”.