جاء في تفسير القرطبي ” ج10 ص42 ” روى أبو عيسى الترمذي عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:” اتقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور الله” ثم قرأ ( إِنَّ فِي ذَلكَ لآيَاتٍ للمُتُوسِّمِين) (سورة الحجر : 75) قال: هذا حديث غريب. وروى الترمذي الحكيم عن أنس قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم،:”إن لله عزّ وجلّ عبادًا يعرِفون الناس بالتوسُّم” وزعمت الصوفيّة أنها كرامة، وقيل: بل هي استدلال بالعلامات، ومن العلامات ما يبدو ظاهرًا لكل أحد وبأول نظرة، ومنها ما يخفي فلا يبدو لكل أحد ولا يدرك ببادِئ النظر، ومنه قول ابن عباس: ما سألني أحد عن شيء إلا عرفَتُ: أفقيه هو أو غير فقيه.

 
وروى عن عثمان بن عفان ـ رضِيَ الله عنه ـ أن أنس بن مالك ـ رَضِي الله عنه ـ دخل عليه وكان قد مرّ بالسُّوق فنظر إلى امرأة فلما نظر إليه قال عثمان: يدخل أحدكم عليَّ وفي عينيه أثر الزِّنى؟ فقال له أنس: أَوَحيًا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلّم ؟ فقال : لا، ولكن برهان وفِراسة، وصدق ، ومثله كثير من الصحابة والتابعين .

 
يقول ابن الأثير في النهاية:” اتقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور الله ” يقال بمعنيين أحدهما ما دل ظاهر هذا الحديث عليه، وهو ما يوقعه الله تعالى في قلوب أوليائه فيعلمون أحوال بعض الناس بنوع من الكرامات وإصابة الظن والحدس، والثاني نوع يتعلم بالدلائل والتجارب والخلق والأخلاق، فتعرف به أحوال الناس، ومنه حديث أفرس الناس ثلاثة، أي أصدقهم فراسة، وأنا أفرس بالرِّجال منك أي أبصر وأعرف.

 
إن الوصول إلى الحكم على الشيء بعد النظر أو السماع قد يكون لذكاء حادٍ يسرع به الربط بين المقدِّمة والنتيجة أو بين السبب والمسبب، غير أن هذا الذكاء لا يصدق أحيانًا، ولا يقلل من شأنه أن يخطئ قليلاً ، فالإنسان بشر، ولكن قد يؤيِّد هذا الذكاء إلهام من الله الصالحين من عباده فيوفقون في الحكم والاستنتاج، وهذا ما يفيده تعبير:” فإنه ينظر بنور الله” وبالطبع لا يكون هذا الصدق في الفِراسة إلا للمؤمن.

 
ومن غير المؤمنين من تكون عندهم الفراسة وتصدُق إلى حد كبير، كأولاد نزار الذين عرَفوا أوصاف بَعير من رؤيتهم له يرعى جانبًا ويترك جانبًا وأثر قدميه مختلف وروثه غير مفرّق فقالوا: إنه أعور وأزور وأبتر وشَرود” الوسيط في الأدب العربي ص40″.

 
وفي كتاب” مفتاح دار السعادة لابن القيم ج2 ص234 ” أمثلة كثيرة من فراسة الإمام الشافعي، وفي إحياء علوم الدين للإمام الغزالي” ج2 ص59 ” حديث عنها، وذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم:” لولا أن الشياطينَ يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوتِ السموات” رواه أحمد وذكر السيوطي في كتابه ” تاريخ الخلفاء ص56 ” قول ابن مسعود أفرس الناس ثلاثة: أبو بكر حين استخلف عمر، وصاحبة موسى حين قالت: يا أبتِ استأجره، والعَزيز حيت تفرَّس في يوسف فقال لامرأته، أكرمِي مثواه.

 
وذكر ابن القيم في زاد المعاد ” التسمية ” قول سيدنا عمر لمن سأله عن اسمه واسم أبيه وداره فقال: جمرة بن شهاب، والمنزل حرّة النار في مسكن ذات لظى، قال له: اذهب فقد احترق بيتك، وذكر في كتاب الروح الفرق بين الفراسة والظن، والموضوع طويل يرجع إليه في هذه المظانِّ وفي تذكرة داود، وتفسير القرطبي لسورة الحجر، ومجلة الضياء التي تصدر في دبي عدد ذي الحجة 1403 هـ وغيرها.

 
والمهمّ أن حديث الفراسة مقبول، والوقائع المذكورة تؤيِّده.