موضوع الخِلاف أو الإمامة الكبرَى أوْلاه المسلمون عناية بالغة منذ الساعات الأولى بعد وفاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتحدّث عنه علماء التوحيد وفقهاء المذاهب، وقرّر جمهورهم أن نصب الإمام واجب بصرف النظر عن كون الوجوب عقليًّا أو سمعيًّا، وأوردوا آيات وأحاديث، وقرّروا أن المسلمين مجمِعون على ذلك، غيرَ آبِهين بأقوال شاذّة لبعض الفِرق، ووضعوا شروطًا لمَن يصلح للإمامة أشرت إليها في كتابي “الإسلام هو الحلّ” الذي طبع مرة ثانية بعنوان “المنهج السليم إلى طريق الله المستقيم” ويهمنا هنا من الشروط ما يتصل بالسؤال وهو حديث “الأئمة من قريش” وخلاصة ما قيل في ذلك ما يأتي:

روى البخاري ومسلم حديثًا عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورد بألفاظ متقارِبة جاء فيها أن الناس تَبَعٌ لقريش، وأن الأئمة يكونون منهم، ويؤخَذ من كلام الماوردي المتوفّى سنة 450 هـ في كتابه “الأحكام السلطانيّة” ومن كلام النووي المتوفى سنة 676 هـ في شرح صحيح مسلم “ج 12 ص 199 وما بعدها” ومن كلام الإيجي من علماء القرن الثامن الهجري في كتابه “المواقف في علم الكلام” ومن ابن خلدون المتوفّى سنة 808هـ في كتابه “المقدّمة” ومن مصادر أخرى: أن الناس في اشتراط القرشيّة في الخَليفة فريقان:

الفريق الأول: يَشترط في الخليفة ـ إلى جانب الشروط الأخرى ـ أن يكون قرشِيًّا، وهو رأي الجمهور الذي قال به أهل السنة ومن أدلّتهم على ذلك:

أ ـ حديث البخاري ومسلم “لا يَزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان”.

ب ـ حديث مسلم “الناس تَبَع لقريش في الخير والشّر”، ومعناه في الإسلام والجاهليّة كما هو مصرّح به في رواية لمسلم “النّاس تَبَع لقريش في هذا الشأن مُسلِمهم لِمُسلِمهم وكافِرهم لكافِرهم” لأنّهم كانوا في الجاهليّة رؤساء العرب وأصحاب الحرم، ولما أسلموا وفُتِحَت مكّة تبعهم الناس ودخلوا في دين الله أفواجًا، وكذلك في الإسلام هم أصحاب الخِلافة والناس تَبع لهم.

جـ حديث “قَدِّموا قريشًا ولا تَقدَّمُوها” أي لا تَتَقدّموا عليها. أخرجه الشافعي في المسند والبيهقي في المعرفة، كلاهما عن ابن شهاب الزهري بلاغًا، أي قال: بلغنا عن رسول الله ذلك. وابن عدي في الكامل عن أبي هريرة وصححه السيوطي. وورد في حديث ثالث أخرجه البزار في مسنده عن علي وصححه السيوطي “فيض القدير للمناوي على الجامع الصغير ج 4 ص 511.

د ـ الإجماع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على عدم مُزاحَمة قريش في الخلافة إلى عصر النووي، ومَن كتبوا في هذا الموضوع.

ويستند الإجماع إلى الحديث القائل: “ما بَقِيَ من الناس اثْنان”.

يقول القاضي عياض ـ كما نقله النووي ـ : اشتراط كونِه قرشِيًّا هو مذهب العلماء كافّة، قال: وقد احتجّ به أبو بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ على الأنصار يوم السقيفة ـ سقيفة بني ساعِدة ـ فلم يُنكِرْه أحدٌ، وبيان ذلك أن المسلمين لمّا اجتمعوا في السقيفة عَقِب وفاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لاختيار خليفة له، بايَع الأنصار سعدَ بن عبادة، وقالوا للمهاجِرين: منّا أمير ومنكم أمير ، فاحتجّت قريش ـ المهاجِرون ـ على الأنصار بهذا الحديث وقالوا لهم: إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أوْصانا بأن نحسِن إلى مُحْسنِكم ونتجاوَز عن مُسِيئكم، ولو كانت الإمارة فيكم لم تكن الوصية لكم، فرجَع الأنصار عن قولهم.

والذين حصروا الخِلافة في قريش اختلفوا في تعميمها في كلّ قريش أو تخصيصها ببعض منهم، كبني عبد المطلب أو بني أميّة أو غيرهما، وذهب ببعضهم التعصُّب إلى حدّ التجاوُز عن الشروط الأخرى التي يجب توافُرها في الإمام، فأجازوا عقدها للقرشي ولو كان عاجِزًا عن القيام بأمور المسلمين.

الفريق الثاني: لا يَشترط القرشيّة في الإمام، وهو قول المعتزلة وجماعة الزيديّة، وجميع الخوارج إلا النَّجدات، وقد حمل عليهم أصحاب الرأي الأول حملة عنيفة، جاء منها قول القاضي عياض ـ كما نقله النووي ـ : لا اعتدادَ بقول النّظام ـ من المعتزلة ـ ومَن وافقه من الخوارج وأهل البِدع إنه يجوز كونه من غير قريش، ولا بسَخافة ضرار بن عمرو “الغطفاني” في قوله: إنّ غير القرشي من النّبط وغيرهم يُقَدَّم على القرشي. لهوان خلعه إن عرض منه أمر، وهذا الذي قاله من باطِل القول وزُخرفته، مع ما هو عليه من مخالفة إجماع المسلمين “النووي على مسلم ج 12 ص 200”.

استند هذا الفريق إلى ما يأتي:

أ ـ أنّ الله لم ينصّ على رجل بعينِه، ولا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نصّ على ذلك، ولا اجتمع المسلمون عندهم على رجل بعينه، فاختيار ذلك مفوّض إلى الأمّة، وردّ عليهم الجمهور بأنه لم ينصّ على رجل، وإنما نصّ على النوعيّة أو الجماعة التي يكون منها، وهي قريش.

ب ـ الحديث الصحيح “اسمعوا وأطيعوا وإن وُلِّيَ عليكم عبد حبشي كأنّ رأسَه زَبيبة” وهذا يدل على أنه يجوز أن يكون الإمام عبدًا حبشِيًّا وليس قرشِيًّا، ورد عليه بأن الحديث خرج مَخرج التمثيل والفرض، وذلك للمبالغة في وجوب السمع والطاعة.

جـ ـ قول عمر بن الخطاب: لو كان سالم مولى أبي حُذيفة حيًّا ما جعلتُها شورى، أو لَولَّيته، أو لما دخلتني فيه الظِّنّة، وردّ عليه بأن مذهب الصحابي ليس بحُجّة، أو بأن مولى القوم منهم وعصبية الولاء حاصلة لسالم في قريش، وعندما استعظم عمر أمر الخلافة ورأى شروطها كأنّها مفقودة في ظَنّه، عدل إلى سالم لتوفّر هذه الشروط فيه حتى من النّسب المُفيد للعصبيّة.

د ـ الإجماع: فالاختيار جرَى في أمصار، ولم يَبْدُ نَكير عن عالم على أصل الاختيار ورد عليه بأن الاختيار في الأمصار لم يكن للخليفة العام بل لأمراء في الأقاليم أو لحكام في ولايات استقلّت.

هذا ملخص ما قيل في اشتراط القرشية وعدم اشتراطِها، والذي رآه كِبار المحقّقين، وهو موافِق لرُوح الشريعة وحكمة الشّروط التي اشترطت في الإمامة، ما يلي:

1 ـ إن الإمام لابدّ أن تكون فيه الكِفاية للقيام بمهمّته، من سلامة الجِسم وسلامة الفكر واستقامة السلوك، ومن الهَيبة التي يحترِمه بها الصديق ويَخشاه العدو، وهذه الهَيبة لها عِدّة عوامل، قد يكون منها أصالة النّسب وقوة العَشيرة ووفْرة الغِنى وكثرة الانتصارات في ميادين الإصلاح وغير ذلك.

2 ـ أن اشتراط القرشيّة التي نصّ عليها الحديث، ليس المقصود منه التبرُّك بالانتساب إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعشيرته، فليس ذلك من مقاصِد الإمامة، وإنّما من مقاصدها قوة النفوذ وهيبة السلطان لتحقيق المصلحة للأمّة ودفع الشّر عنها، وإذا كان الحديث متّفِقًا مع هذا المقصد في أيام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبعدها بقليل، فربما لا يتفق في وقت آخر، فيكون واقعة حال لا يتعدّاها، ولا تلتزم بعد ذلك.

3 ـ وإذا كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جعل الخِلافة في قريش مؤبّدة ” ما بَقي في الناس اثنان” فليسَ ذلك على إطلاقه، بل هو مشروط بتوافَر العوامل الأخرى فيهم حتّى تكون من حقّهم، ويدلُّ على ذلك ما رواه أحمد برواة ثقات والبزار والدارقطني وهو: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقف على باب بيت فيه نَفر من قريش وقال: “إن هذا الأمر في قريش ما إذا استُرحموا رحموا وإذا حكَموا عدلوا، وإذا قسَموا أقسطُوا، فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يُقْبَل منه صَرف ولا عدْل” وجاء في رواية لأحمد عن أنس أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال “الأئمة من قريش إنّي لي عليكم حقًا ولهم عليكم حَقًّا مثل ذلك، ما إن استُرحموا رحموا، وإن عاهَدوا وفوا، وإن حكموا عدَلوا…”.

وهذا ما أميل إليه من أن العِبرة بوجود الشروط التي تليقُ بمقام الإمامة وتساعد على تحقيق المصلحة العامة، ولا يَغيب عنا قوله ـ صلّى الله عليه وسلم ـ “إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فقد ضُيِّعت الأمانة” رواه البخاري ، وما جاء من الأحاديث التي تنهى عن تولية من ليس كُفُؤًا للولاية في أي قطاع من القطاعات، وما فعله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من تفضيله تولية القيادة والإمارة مَن يصلح أكثر من غيره من السابقين في الإسلام، ومن عدم الاستجابة لأبي ذر عندما طلب منه ولاية، حيث قال له: “إنك ضعيف وإنها أمانة” رواه مسلم.

ولعل بعض القائلين بعدم اشتراط القرشيّة في الإمامة لاحَظوا في أزمانِهم ذهاب القوة التي كان يتمتع به القرشيّون. وقد أشار إلى ذلك ابن خلدون في مقدّمته فقال: ومن القائلين بنفي اشتراط القرشيّة أبو بكر الباقِلاني لما أدرك ما عليه عصبيّة قريش من التلاشِي والاضمحلال واستبداد ملوك العَجم على الخلفاء، فأسقط القرشيّة، وإن كان موافِقًا لرأي الخوارج لما رأى عليه حال الخلفاء لعهده.