قال تعالى: (وقَرْنَ فِي بُيوتِكُنّ ولا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهِليّة الأُولَى) (سورة الأحزاب : 32) الآية مذكورة في سياق النِّداء لنساء النبي ـ صلى الله عليه وسلم.
ترشدهن إلى الاستقرار في بيوتهن وعدم التبرُّج، كما كان عند الجاهليّة الأولى.
والتبرّج قيل: هو المشي مع تبختُر وتكسر، وقيل: هو أن تُلْقي المرأة خِمارها على رأسها ولا تشدُّه، فتنكشِف قلائدها وقُرْطها وعنقها، وقيل: هو أن تُبديَ من محاسنِها ما يجب سترُه. وهو مأخوذ من البَرَج ـ بفتح الباء والراء ـ أي السّعة، كما توصَف العين الحسنة بالسعة، وكما يقال في أسنانه بَرَج، إذا كانت متفرّقة. وقيل: هو من البُرج ـ بضم الباء، أي القصر العالي. ومعنى تبرّجت ظهرت من بُرجِها، وهو بهذا المعنى يجعل جملة “ولا تبرَّجْنَ” مؤكِّدة لجملة “وقَرْنَ” .
والجاهليّة الأولى مختلَف في تحديد زمنها. وملخّص الأقوال كما في تفسير القرطبي “ج 14 ص 179”:
1 ـ ما بين آدم ونوح . وهي ثمانمائة سنة. قاله الحكم بن عيينة.
2 ـ ما بين نوح وإدريس، كما قاله ابن عباس.
3 ـ ما بين نوح وإبراهيم، كما قاله الكلبي.
4 ـ ما بين موسى وعيسى، كما قاله جماعة.
5 ـ ما بين داود وسليمان . كما قاله أبو العالية.
6 ـ ما بين عيسى ومحمد، كما قاله الشعبي.
وكلها أقوال لا يسندها دليل صحيح. فالقَدْر المتّفق عليه أنها قبل البعثة النبوية بزمن طويل؛ لأن وصفها بالأولى يُشعر بأن هناك جاهلية ثانية أتت بعدها، وهي أقربُ منها إلى البعثة.
وكانت المرأةُ في الجاهليّة الأولى تلبَس الدرع من اللؤلؤ، أو القَميص من الدُّرِّ غير مَخيط الجانبين، وتلبس الرّقاق من الثياب ولا تُواري بدنَها، فتمشي وسط الطّريق، تعرض نفسَها على الرّجال.
وهذا يشعر بأن ذلك العهد عهد تَرف، فهل كان في أيّام عاد وثمود حيث جاء في القرآن الكريم ما يدلّ على أن هؤلاء كان فيهم حضارة وقوة وتَرَف يبنون بكل مكان آية على قوّتهم يعبَثون، ولا يجِدون بشكر الله، ويتّخِذون مصانع لعلهم يخلُدون. وأمدّهم الله بأنعام وبَنين وجنّات وعيون، وينحِتون من الجِبال بيوتًا فارِهين؟ ربما يكون ذلك هو عهد الجاهليّة الأولى، ومهما يكن من شيء فإن الجاهليّة الثانية المتصلة ببعثة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما كانت بهذا الثّراء الفاحش ، لكن كان في بعض نسائها بعض مظاهر التبرّج، الذي قد يصل إلى العُرْي الكامل في بعض الأحيان، فقد ذكر مسلم في صحيحه “كتاب التفسير” أن المرأةَ كانت تطوف بالبيت وهي عُريانة ـ وفي لسان العرب: إلا أنّها كانت تلبس رهطًا من سُيور ـ فتقول: مَنْ يُعيرني تَطوافًا ـ بفتح التاء وكسرها تجعله على عورتِها وتقول:
اليَوْمَ يَبدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ
فَمَا بَدَا مِنْهُ فَلا أُحِلُّهُ
فنزلت قوله تعالى: (يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينتَكُم عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) (سورة الأعراف : 31).
وكان إعطاء المرأة ما تطوف به يُعَدُّ من البِرّ.
ووصف التبرُّج بأنّه تبرُّج الجاهليّة الأولى، لا يَعني أن المنهيّ عنه هو ما كان على هذه الصورة الفاضحة، بل هذا الوصف لبيان الواقع وليس قيدًا لإخراج ما عداه من الحكم. ويُراد به بيان شناعتِه ومُضادّته للذَّوق والفطرة السليمة. فلا يُقال: إنّ التَّبرُّج البَسيط معفَوٌّ عنه ما دام لم يكن فاضِحًا حسب العُرف الذي يحدِّده، ومثاله قوله تعالى في الرّبا ‎: (لا تأكُلُوا الرِّبا أَضْعافًا مُضاعَفةً) فالمراد النهي عنه مطلقًا حتى لو كان بسيطًا، لكن ذلك هو ما كان عليه العرب كمظهر من مظاهر الجشع والاستغلال.
والتبرُّج المَنهيّ عنه في الإسلام هو كشف العورة التي يختلف حجمها أو مساحتها باختلاف مَن يطلعون عليها، فمع المحارِم كالأب والابن والأخ، هي ما بين السُّرة والرُّكبة، ومع الرِّجال الأجانب هي جميع البدن ما عدا الوجه والكَفَّين، والخَدم الموجودون الآن رجال أجانب، وعَورة المرأة مع المرأة كعورتِها مع المحارِم. وليس من المحارم ابن العمّ وابن العمّة وابن الخال وابن الخالة، وأخو الزّوج وكل أقاربه ما عدا والده.
وإذا جاز لها كشف الوجه مع الأجانب فليكن من غير أصباغ ومُغريات فاتنة، فالمقصود من النّهي عن التبرّج هو عدم الفتنة وسدّ باب الفساد.
وإذا كان النّهي موجَّهًا إلى نِساء النبيِّ فغَيرهُنّ أولى، لعدم وجود ما لديهن من الشّرَف والحَصانة والانتساب للرسول والبيئة الصالحة.
ويتبع كشف العورة لين الكلام والتعطُّر والخلوة والتلامُس وكل ما يدعو إلى الفتنة.