في ضوء مجموعة من الأحاديث، أبرزها ما رواه بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “( احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك) قال : قلت : يا رسول الله إذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال : (إذا استطعت أن لا يرينها أحد فلا يرينها). قال : قلت : يا رسول الله إذا كان أحد خاليا؟ قال: ( الله أحق أن يستحيا منه من الناس)” رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه، وصححه الألباني.

حكم التعري والتجرد من الثياب؟

فهم العلماء حكم التعري والتجرد من الثياب، ولا غرو أن حرموا كشف العورة في وجود من لا يجوز له رؤيتها، ثم سحبوا ذلك على حكم التعري في حالة الخلوة.

فذهب أكثر العلماء إلى حرمة التعري في حالة الخلوة من حيث المبدأ، ثم إنهم استثنوا بعض حالات أجازوا فيها التعري، ومنهم من وسع في هذه الاستثناءات، ومنهم من ضيقها. إلا أن حالات الجواز بقيت عند أكثر أهل العلم استثناء من الأصل، أخذوا ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم ردا على قول السائل: “إذا كان أحد خاليا؟ قال: ( الله أحق أن يستحيا منه من الناس” كما في الحديث السابق. ويمثل هذا الرأي الأكثرية من المذاهب السائدة (المذهب الحنفي والشافعي والحنبلي)

جاء في الموسوعة الفقهية:

“كما يجب ستر العورة عن أعين الناس يجب كذلك سترها ولو كان الإنسان في خلوة، أي في مكان خال من الناس، والقول بالوجوب هو مذهب الحنفية على الصحيح، وهو مذهب الشافعية والحنابلة”.

الحالات المستثناة:

جاء في حاشية ابن عابدين من كتب الحنفية في معرض ذكره لحالات الاستثناء:

“إلا لغرض صحيح كتغوط واستنجاء، وكذا تجرده للاغتسال منفردا، وحكي في القنية أقوالا: من هذه الأقوال: أنه يكره، ومنها أنه يعذر إن شاء الله، ومنها لا بأس به، ومنها يجوز في المدة اليسيرة، ومنها يجوز في بيت الحمام الصغير.

وجاء في مغني المحتاج من كتب الشافعية:

ويجب ستر العورة في غير الصلاة أيضا، ولو في الخلوة إلا لحاجة كاغتسال، وقال صاحب الذخائر: يجوز كشف العورة في الخلوة لأدنى غرض، ولا يشترط حصول الحاجة، قال: ومن الأغراض كشف العورة للتبريد، وصيانة الثوب من الأدناس والغبار عند كنس البيت وغيره، وإنما وجب الستر في الخلوة لإطلاق الأمر بالستر، ولأن الله تعالى أحق أن يستحيا منه.

فإن قيل: ما فائدة الستر في الخلوة مع أن الله سبحانه وتعالى لا يحجب عن بصره شيء؟.

أجيب بأن الله سبحانه وتعالى يرى عبده المستور متأدبا دون غيره.
ولا يجب ستر عورته عن نفسه بل يكره نظره إليها من غير حاجة.

جاء في كتاب الإنصاف من كتب الحنابلة:

واعلم أن كشفها في غير الصلاة: تارة يكون في خلوة، وتارة يكون مع زوجته، أو سريته، وتارة يكون مع غيرهما، فإن كان في خلوة، وكان ثم حاجة كالتخلي ونحوه جاز، وإن لم تكن حاجة، فالصحيح من المذهب: أنه يحرم.

فإذا أضيف حد العورة الواجب سترها إلى هذه المواطن المستثناة، عرفنا أنه لا يجوز للمرأة مثلا أن تكشف عن فخذها وهي في قعر بيتها بقصد التبرد، هذا عند الحنفية والحنابلة، أما الشافعية فيعتبرون التبرد واحدا من الاستثناءات المجيزة للتعري-  تخففا من الثياب فضلا عن كشف البطن والظهر، ولا أن تنام على هذا الوضع.

جاء في حاشية ابن عابدين:

“ثم إن الظاهر أن المراد بما يجب ستره في الخلوة خارج الصلاة: هو ما بين السرة والركبة فقط، حتى إن المرأة لا يجب عليها ستر ما عدا ذلك وإن كان عورة.
يدل عليه ما في باب الكراهية من القنية، حيث قال: وفي غريب الرواية يرخص للمرأة كشف الرأس في منزلها وحدها، فأولى لها لبس خمار رقيق يصف ما تحته عند محارمها، لكن هذا ظاهر فيما يحل نظره للمحارم، أما غيره كبطنها وظهرها، هل يجب ستره في الخلوة؟ محل نظر، وظاهر الإطلاق نعم”. انتهى.

وجاء في الشرح الكبير لابن قدامة الحنبلي:

“قال أحمد في رواية جعفر بن محمد في المرأة تقعد بين يدي زوجها وفي بيتها مكشوفة في ثياب رقاق.، فلا بأس به، قلت: تخرج من الدار إلى بيت مكشوفة الرأس وليس في الدار إلا هي وزوجها؟ فرخص في ذلك”.

المذهب المالكي:

يختلف المذهب المالكي هنا عما رآه جمهور العلماء، فلا يحرم التجرد في حالة الخلوة، ولكنه يكرهه فقط، ويخص الكراهة بكشف السوأتين( القبل والدبر) وما عداهما فيجوز كشفه بلا كراهة.

جاء في حاشية الدسوقي:

يجوز لكل من الرجل والمرأة … أن يكشف في الخلوة ما عدا السوأتين وما قاربهما من العانة والألية، وأما كشف السوأتين وما قاربهما في الخلوة فمكروه، ومقتضى هذا التصور أن التستر في حالة الخلوة أدب من الآداب الشرعية، التي لا ترتقي إلى الوجوب أو الفريضة، وأن هذه الكراهية تزول لأدنى حاجة.
وهو الذي مال إليه الشيخ الألباني– رحمه الله-. (الثمر المستطاب للشيخ الألباني).

تعقيبات:

جعل التستر في الخلوة أدبا لا واجبا هو الذي يستفاد من الأدلة بلا تكلف، وهذا غاية ما يفيده قوله صلى الله عليه وسلم: “(الله أحق أن يستحيا منه من الناس)  وبخاصة إذا استحضرنا مبدأ الاستثناء في حالة التخلي والجماع والغسل، فإنه لم يأت في صحيح  السنة ما يدل على وجوب التستر أثناء الجماع مع إمكانه، فدل على أن في الأمر سعة كبيرة، ولا شك أن وضع الجماع أحرى بطلب التستر حياء من الله.

يؤيد ذلك تشريع الاستئذان وإيجابه، فلو كان المرء في خلوته، لا يصح أن يكون إلا مستور العورة فعلام إذن الاستئذان، بخاصة إذا كان وحده دون زوج أو زوجة، ولم يقل أحد أعلمه من أهل العلم بسقوط الإذن على الرجل الذي يعيش وحده.

ويؤيد ذلك ويؤكده، قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ  [النور/58] والشاهد قوله تعالى: “وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ” فلو كان المقصود وضع الثياب عن غير العورة وعدم وضعها عن العورة لما كان إيجاب الاستئذان حتى على الأطفال معنى.

ومعظم ما استدل به من أوجب الستر في الخلوة لا يفيد ذلك، إنما يفيد الستر في وجود من لا يجوز له رؤية العورة ممن أُمر بالستر، من ذلك ما رواه النسائي بسند صححه الألباني عن يعلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يغتسل بالبراز فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال: “إن الله عز وجل حليم حيي ستير يحب الحياء والستر، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر”.
فالرجل اغتسل بالفضاء عريانا، وهو عرضة لأن يطلع عليه الناس، وبالفعل رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأين هذا من التعري منفردا!!!

ومنها ما رواه مسلم بسنده عن المسور بن مخرمة قال حملت حجرا ثقيلا فبينا أنا أمشي سقط عني ثوبي فلم أستطع أخذه فرآني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: “خذ عليك ثوبك ولا تمشوا عراة” فالرجل سقط عنه ثوبه وسط الناس، ومع ذلك فإنه استمر في المشي عاريا بسبب حمله الحجر وعدم قدرته على التقاط ثوبه، فأين هذا من التعري منفردا!!!

وربما استدلوا بحديث ضعيف، مثل ما رواه الترمذي وغيره من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إياكم والتعري فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط وحين يقضي الرجل إلى أهله حيوهم وأكرموهم” والحديث ضعيف كما ذكر الشيخ الألباني، حديث رقم (2194) في ضعيف الجامع.