هلاك الظالمين نعمة كبرى ومنة عظمى ، قال تعالى، ( فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين) ” الأنعام 45″ فقرن حمده تعالى بسبب ظاهر – وهو المستحق للحمد في كل حين – يتمثل في إهلاكه سبحانه للظالمين وقطعه لدابرهم ،وفي ذلك من الإنعام والرحمة بالمؤمنين ما لا يخفى .

من هنا استحق يوم عاشوراء أن يكون واحدا من أعظم أيام التاريخ فقد هلك فيه الرمز الأكبر للظلم والطغيان في الأرض على مر العصور ، وهو فرعون حاكم مصر في عهد موسى عليه السلام ، على غير توقع ، وبغير تكافؤ في موازين القوى – آنذاك – بين أهل الحق وأهل الباطل ، لكن الله – جلت قدرته – فعال لما يريد .

وقد سمى يوم العاشر من المحرم باسم عاشوراء ، تعظيما له ، وهو اسم إسلامي خالص لم تعرفه العرب في الجاهلية ، مع أنهم ربما ورثوا تعظيمه من ديانة إبراهيم عليه السلام .

وقد أمر الله – عز وجل – نبيه موسى بأن يذكر بني إسرائيل بنعم الله عليهم ، وأعظمها إهلاك فرعون فقال تعالى : ( ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ) ” إبراهيم :5) قال القرطبي في تفسيره ( 9/341) : ( أي بما أنعم الله عليهم من النجاة من فرعون ومن التيه إلى سائر النعم ، وقد تُسمى النعم الأيام ، ومنه قول عمرو بن كلثوم : وأيام لنا غرٌ طوال ).

وقد شاءت إرادة الله أن يكون استشهاد الإمام الحسين بن على رضي الله عنهما في موقعة كربلاء الشهيرة في شهر الله المحرم، بل في اليوم العاشر منه أيضا، ليكون للشيعة ـ الذين يظنون أنفسهم حملة راية الحسين دون بقية المسلمين ـ شأن مع هذا اليوم، ليس لغيره من بقية الأيام !

فضل عاشوراء:

في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن يوم عاشوراء فقال : ( ما رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – صام يوما يتحرى فضله على الأيام إلا هذا اليوم – يعني عاشوراء – وهذا الشهر – يعني رمضان – .

وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – في صيامه لعاشوراء قد عَبَرَ مراحل :

المرحلة الأولى :

أن الله ألهمه ، كما ألهم قريشا – أن يصوم ، دون أن يذكر فضلا أو يشير إلى سبب ، ولعله – صلى الله عليه وسلم – لم يكن قد علم فضل هذا اليوم بعد ، لكن أراد الحفاظ على بعض ما تبقى من صحيح ملة إبراهيم – عليه السلام –فقد جاء في الصحيحين عن عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت : ( كان عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – يصومه …..)

 المرحلة الثانية :

لما قدم النبي – صلى الله عليه وسلم – المدينة ، ورأى صيام أهل الكتاب له ، صامه ، وأمر الناس بصيامه أيضا – ولم يكتف بصيامه وحده كما كان يفعل في مكة – لأنه علم العلة من تعظيم هذا اليوم ، ومن بقاء ذكره عبر الدهور والعصور ، ففي الصحيحين عن ابن عباس قال : قدم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء ، فقال لهم رسول الله –صلى الله عليه وسلم – : ما هذا اليوم الذي تصومونه ؟ قالوا : هذا يوم عظيم ، أنجى الله فيه موسى وقومه ، وأغرق فرعون وقومه ، فصامه موسى شكرا لله ، فنحن نصومه ، فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم – فنحن أحق وأولى بموسى منكم ، فصامه ، وأمر بصيامه ، وقد اختلف الفقهاء ، رضي الله عنهم : هل كان صوم عاشوراء ، قبل فرض شهر رمضان واجبا أم كان سنة مؤكدة ؟ فذهب أبو حنيفة وأحمد – كما هو ظاهر كلامه – إلى الوجوب ، ومال الشافعي إلى أنه كان سنة مؤكدة فقط ومما يؤيد القول بالوجوب – أنئذ- تشديد النبي – صلى الله عليه وسلم- في أمره ، واهتمام الصحابة به إلى حد أنهم كانوا يصوّمون أطفالهم ، فقد جاء في الصحيحين عن الربيع بنت معوّذ قالت ” أرسل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة : “من كان أصبح صائما فليتم صومه ، ومن كان أصبح مفطرا فليتم بقية يومه ” فكنا بعد ذلك نصومه ونصوّم صبياننا الصغار منهم ، ونذهب إلى المسجد فنجعل لهم اللعبة من العهن ، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه إياها ، حتى يكون عند الإفطار ” وفي رواية ” فإذا سألونا الطعام أعطيناهم اللعبة تلهيهم حتى يتموا صومهم .

وعلى أية حال فإن هذه المرحلة قد انتهت سريعا ، بعد أن فرض صيام رمضان في السنة الثانية للهجرة ، بما يعني أن وجوب صيام عاشوراء – عند من قال بالوجوب – لم يستمر سوى عامين فقط .

المرحلة الثالثة:

ترك النبي – صلى الله عليه وسلم الأمر بصيام عاشوراء بعد أن فرض عليه رمضان ، وترك التأكيد فيه ، ولم يترك استحبابه ، ففي الصحيحين عن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال ( صام النبي – صلى الله عليه وسلم – عاشوراء وأمر بصيامه ، فلما فرض رمضان ترك ذلك …) ,أكثر العلماء على استحباب صيام يوم عاشوراء ، لما جاء في صحيح مسلم عن أبي قتادة أن رجلا سأل النبي – صلى الله عليه وسلم – عن صيام يوم عاشوراء ، فقال : ( أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله ) ولما خرجه الإمام احمد والنسائي من حديث حفصة – رضي الله عنها – : أن النبي – صلى الله عليه وسلم –( لم يدع صيام يوم عاشوراء ، والعشر ،وثلاثة أيام من كل شهر ) . والحديث في سنده أبو اسحق الاشجعي الكوفي وهو مقبول كما في التقريب ( 2/390) وسنده صحيح .

وقد مر بنا حديث ابن عباس : ( ما رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – صام يوما يتحرى فضله على الأيام إلا هذا اليوم – يعني عاشوراء – ) والشاهد فيه أن ابن عباس إنما صحب النبي – صلى الله عليه وسلم – وعقل عنه في آخر أمره كما هو معلوم .

المرحلة الرابعة :  

عزم النبي – صلى الله عليه وسلم –  على صيام يوم آخر مع عاشوراء مخالفة لأهل الكتاب ، ففي صحيح مسلم عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه قال : “حين صام النبي – صلى الله عليه وسلم – يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا : يا رسول الله : إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى ! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم : فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع ، قال : فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.

ولذلك فإن الجمع في الصيام بين يومي التاسع والعاشر مستحب، وهو رأي كثير من السلف، وإن كان صيام عاشوراء فقط لا شيء فيه ،فإن بعض السلف يرى أن السنة ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ما كان ينوى فعله،ونحن نرى أن العلة هنا واضحة ولذا نرجح سنية الجمع بين اليومين في الصوم. وأما تعظيم النصارى ليوم عاشوراء فغير معروف لنا الآن ، ولعله كان في زمن السلف رضي الله عنهم فإنهم يشتركون مع اليهود في الإيمان بالتوراة.

وأما صيام التاسع مع العاشر بنية مخالفة أهل الكتاب ، مع كون الصيام مشروعا في الشريعتين الإسلامية واليهودية ، فيدلنا على وجوب المخالفة بصفة عامة ، وفيما ليس مشروعا بصفة خاصة ، وإن كان صيام التاسع مع العاشر له حِكم أخرى ، ومنها ما خرجه الطبراني في الكبير (10/401) بسند صحيح عن ابن عباس أيضا : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: إن عشت إلى قابل صمت التاسع مخافة أن يفوتني عاشوراء.

قال القرطبي في المفهم ( 2/192) كان هذا القول من النبي – صلى الله عليه وسلم – بعد أن تمادى على صومه عشر سنين أو نحوها .

وإذا كان ابن القيم يرى أن أكمل الصيام هو صيام عاشوراء ويوما قبله ويما بعده ، فلعل مرد ذلك لأحد أمرين: إما على سبيل الاحتياط للتيقن من إدراك يوم عاشوراء ، وعدم الخطأ في تقدير هلال الشهر ، أو لأن الصيام في المحرم مستحب بصفة عامة ، فقد جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه – ، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – :”أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم “، غير أن صيام الشهر كله لم يرد في سنة صحيحة ولا ضعيفة !

 أحكام مهمة تتعلق بعاشوراء:

1 – صيام يوم عاشوراء يكفر ذنوب سنة ماضية ، بشرط  اجتناب  الكبائر، فإن الصلاة وصيام رمضان أعظم من صيام عاشوراء ، ومع هذا قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر “(مسلم والترمذي) فإياك  والاغترار ، فإن إنكار  الذنوب ذنوب .

2 – لا يكره إفراد عاشوراء بصيام، كذا قال ابن تيمية في المجلد  الخامس من الفتاوى  وابن حجر الهيثمي  في تحفة  المحتاج ،وإن كان الأكمل  صيام التاسع معه. كما أسلفنا

3 – يجوز صيام عاشوراء للمسافر، قال ابن رجب ( في لطائف المعارف ص 70) ” وكان طائفة من السلف يصومون عاشوراء  في السفر، منهم ابن عباس  وأبو إسحاق  السبيعي  والزهري ، وقال : رمضان له عدة من أيام أخر ، وعاشوراء  يفوت ، ونص أحمد على أنه يصام  عاشوراء في السفر ، وروى عبد الرزاق .. كان النبي – صلى الله عليه وسلم –  بقُرَيد – وهو موضع قرب مكة – فآتاه  رجل فقال له النبي – صلى الله عليه وسلم – أطعمت اليوم شيئا ليوم عاشوراء ، قال : لا : إلا أني شربت ماء ، قال فلا تطعم شيئا حتى  تغرب الشمس ، وأمر  من وراءك  أن يصوموا هذا اليوم ” والحديث أخرجه عبد الرزاق ( 4/286) والطبراني في الكبير ( 20/ 342) وقال الهيثمي  رجاله ثقات .

4 – لا يجوز تخصيص  وقت – ولو كان  فاضلا –  بعبادة  لم ينص عليها الشرع ، فقد كان اليهود  من أهل المدينة  وخيبر  في عهد  رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يتخذون يوم عاشوراء عيدا ،  كما يصنع  أهل الريف في مصر الآن إذ يعدونه موسما يذهب  الأهل  فيه لزيارة  أبنائهم بالهدايا  والعطايا  ، ولم يرد  شيء من هذا في شرعنا نحن المسلمين، ففي الصحيحين  عن أبي موسى  قال :  كان يوم عاشوراء  يوما تعظمه اليهود  وتتخذه  عيدا ، فقال  رسول الله – صلى الله عليه وسلم -:” صوموه أنتم ”  وفي رواية  عن النسائي  وابن حبان : خالفوهم  فصوموه ” وهذا يدل على النهي  عن اتخاذه عيدا أو موسما كما يقول أهل مصر .

بدع وضلالات حول عاشوراء:

1 – كل ما روي في فضل الاكتحال في يوم عاشوراء ، والاختضاب والاغتسال فيه  فموضوع  لا يصح، ولعله من وضع الفئة الباغية الذين قتلوا الإمام الحسين – رضي الله عنه –  في مثل هذا اليوم ، ومن ذلك حديث “من اكتحل يوم عاشوراء لم  يرمد  من ذلك العام” وحديث “من اغتسل  يوم عاشوراء لم يمرض ذلك العام ” وحديث ” من  وسع  على نفسه وأهله في يوم عاشوراء  وسع الله عليه سائر السنة ” وغير ذلك  (انظر : لطائف المعارف لابن رجب ص 75 ،ومجموع الفتاوى لابن تيمية 25/2/ ، والموضوعات لابن الجوزي 2/199).

2 –  من أراد أن يحزن لذكرى مقتل الحسين – رضي الله عنه – وأصحابه الكرام في مثل هذا اليوم على يد الظلمة، فله ذلك ، فإن ذلك مما يحزن كل مسلم ، ولكن ذلك لا ينبغي  أن نتجاوز فيه السنة ، فلا يجوز شق الجيوب ،ولطم لخدود ، والتعزي بعزاء  الجاهلية، أما دمع العين وحزن القلب فلا حرج فيه ،والحسين واخوه الحسن سيدا شباب أهل  الجنة ،وهذا مما يخفف حزننا عليه وعلى أمثاله من أئمة الإسلام الذين قتلوا ظلما وعدوانا ، فهم أحياء عند ربهم يرزقون ، وقد قتل عم النبي – صلى الله عليه وسلم – حمزة  ومُثّل بجثته  الشريفة ، ومع ذلك لم يفعل النبي – صلى الله عليه وسلم – مع حزنه – عليه ما يفعله بعض أهل الضلال الآن ولم يتخذ يوم مقتله مأتما!

3- إيذاء البدن في هذا اليوم إظهارا للحزن على استشهاد الحسين رضي الله عنه، من أشنع البدع التي شوهت صورة الإسلام في عيون كثير من الغربيين، ولا ندري لم يتمسك بها العموم،على الرغم من أن كثيرا من المراجع ـ حوالي مائةـ  ينكرون التطبير أشد الإنكار وبعضهم يرى فيه الكفارة أو الدية لو حدث إيذاء لمسلم.

وأما ترك صيامه بزعم أن أحاديثه ضعيفة كما يدعى البعض، أو أن هذه الأحاديث قد وضعها الأمويون فهراء سخيف ، وزعم باطل مخالف للمنطق والعقل وللسنة الثابتة عن طريق أهل البيت أنفسهم  وها هي ذي أحاديث ثلاثة من أوثق كتبهم تثبت أن صيام عاشوراء عندهم سنة كصيامه عندنا تماما.

– عن أبي الحسن عليه السلام أنه قال: “صام رسول الله صلى الله عليه وآله يوم عاشوراء”

– عن أبي عبد الله عليه السلام عن أبيه أن عليا عليهما السلام قال: “صوموا العاشوراء التاسع والعاشر فإنه يكفر ذنوب سنة”

عن جعفر عن أبيه عليه السلام أنه قال: “صيام يوم عاشوراء كفارة سنة”.