قبل البدء في الموضوع ينبغي أن نحرر المراد منه، فبعض الباحثين في الموضوع قد يفهم أن المراد تحديد الربح للتجار من قبل ولي الأمر.
وهذا ليس مرادًا هنا، إذ لو كان هو المراد لبحث تحت عنوان آخر أخص به، وهو عنوان “التسعير”
على أن التسعير لا يقتصر علي التجار، بل يشمل المنتجين من زراع وصناع، ونحوهم…
كما أن بعض الباحثين يشتبه عليه موضوع الربح ونسبته بموضوع “الغبن” وقد اشتهر عند بعض الفقهاء أن الغبن يتسامح فيه في حدود الثلث وما عدا ذلك يعتبر غبنًا فاحشًا، لا يجوز، أخذا بالحديث المتفق عليه في شأن الوصية “الثلث والثلث كثير”.
ولكن الغبن شيء والربح شيء آخر، ولا تلازم بينهما، فقد يربح التاجر 50 % أو 100 % ولا يكون غابنًا للمشتري، لأن السلعة في السوق تساوي ذلك، أو أكثر، بل قد يكون مع الربح الكبير متساهلاً مع المشتري.
وقد يبيع للمشتري بربح قليل، بل بغير ربح، بل ربما مع خسارة تقل أو تكثر، وهو مع هذا قد غبن المشتري.
وهنا يلزم معرفة المراد من التجارة والربح.

التجارة والربح:

التجارة هي: شراء السلع وبيعها بقصد الربح منها.
والتاجر هو: من يشتري السلعة لبيعها بقصد الربح.
وقد تسمي السلعة: البضاعة أو العرض، وتجمع علي عروض.
والربح هو: الفرق الزائد بين ثمن بيع السلعة وثمن شرائها مضافًا إليه المصاريف التجارية.
وفي القرآن الكريم: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم). (النساء: 29).
وفي آية المداينة التي أمرت بكتابة الدين: (إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها). (البقرة: 282).
كما عرض القرآن للتجارة المعنوية، كما في قوله تعالي: (يرجون تجارة لن تبور). (فاطر: 29).
وقوله: (هل أدلكم علي تجارة تنجيكم من عذاب أليم) (الصف: 10).
ووصف تعالي المنافقين بقوله: (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدي فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين). (البقرة: 16).
فدل هذا على أن الأصل في التجارة أن تربح، ومن لم تربح تجارته فلابد أنه لم يحسن اختيار ما يتجر فيه، أو من يتعامل معه.
وقد روى الترمذي عن أبي هريرة أن النبي -صلي الله عليه وسلم- قال: “إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك” وقال: حسن غريب (رواه في البيوع باب النهي عن البيع في المسجد، حديث 1321) . وهذا، لأن المقصود من التجارة الربح فإذا دعا عليه المؤمنون ألا يربح الله تجارته، فقد ضاع مقصوده وذهب تعبه سدى.
وقد ذكر القرآن التجار المؤمنين بقوله: (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يومًا تتقلب فيه القلوب والأبصار). (النور: 37 ).
وإذا كانت التجارة بيعًا وشراء فقد ذكر القرآن البيع في رده على المرابين المتلاعبين (ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا) البقرة: 275).

وذكر القرآن البيع في معرض الحث على السعي إلى الجمعة: (فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع) (الجمعة: 9).
وذكر القرآن فعل “يشري” ” بمعني “يبيع” وذلك في مجال المعنويات: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله). (البقرة: 207).
ومثله: (فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة). (النساء: 74).
كما ورد في فعل “شري” في الماديات في قصة يوسف الصديق: (وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين). (يؤسف: 20).
وفي جملة آيات يطلق القرآن الكريم على التجارة وصفًا أو عنوانًا يوحي بالرضا عنها، وهو “الابتغاء من فضل الله” وذلك في مثل قوله تعالي: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله). (الجمعة: 10).
وقوله: (وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله). (المزمل: 20).
والقرآن لا يمنع ابتغاء هذا الفضل، ولو في موسم الحج، وقصد النسك والعبادة، فيقول سبحانه: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم) البقرة: 198.
كما نوه برحلتي قريش الشهيرتين بين اليمن والشام بقوله: (لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت). (قريش: 1 – 3).
ابتغاء الربح لإيتاء الحقوق والمحافظة على أصل المال:
وقد روي الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي -صلي الله عليه وسلم- قال: “ألا من ولي يتيمًا له مال فليتجر فيه ولا يتركه حتي تأكله الصدقة“. (رواه في أبواب الزكاة حديث 641 ط. حمص. وفي سنده مقال).
وهذا الحديث وإن كان فيه مقال، فقد روي الطبراني في الأوسط من حديث أنس مرفوعا: “اتجروا في أموال اليتامي، لا تأكلها الزكاة”. (قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد: أخبرني سيدي وشيخي يعني الحافظ العراقي ـ: أن إسناده صحيح 3 / 67 وحسنه الحافظ ابن حجر والسيوطي كما في فيض القدير 1/ 108). وصححه العراقي.
وصح نحو هذا مرسلاً، من حديث يوسف بن ماهك مرفوعًا، كما صح هذا المعني موقوفًا على أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه- (انظر: كتابنا: فقه الزكاة 1 / 122، 123 ط. وهبة بالقاهرة، السادسة عشرة).
وكل هذه الأحاديث تشير إلى أمر هام في ميدان الاقتصاد والتجارة، وهي أن الحد الأدني الذي ينبغي أن تحققه التجارة الناجحة هو: أن يفي الربح بما يجب في المال من زكاة، إلى جوار النفقة أيضًا. أي النفقة المطلوبة لرب المال ومن يعوله.
فإن المال كما ينقص ظاهرًا بإخراج الزكاة منه، بحيث تصبح المائة (5 ,97)، فإنه لا شك ينقص بمقدار ما ينفق منه على حاجات مالكه.
وهذا يحتم على ذي المال القليل أن يربح أكثر، إما بإدارة المال مرات أكثر، أو بزيادة نسبة الربح، حتي يمكن لربحه أن يغطي نفقاته المتجددة، وإلا أكلت النفقة رأس ماله.
وهذا بخلاف ذي المال الكثير، فقد يكفيه القليل من الربح كل ما يحتاج إليه، وزيادة.

هل حددت النصوص الشرعية نسبة للربح:

إذا كانت السنة قد رغبت في الاتجار بالمال، ليحقق ربحًا ينفق منه، ويبقي رأس المال سالمًا، فهل أشارت السنة إلى تحديد نسبة معينة للربح، يفرضها التاجر على نفسه، أو يفرضها عليه المجتمع، لا يجوز له أن يتعداها؟

الواقع أن المتتبع للسنة النبوية، والسنة الراشدية، وقبل ذلك القرآن الكريم لا يجد أي نص يوجب، أو يستحب، نسبة معينة للربح، ثلثًا أو ربعًا أو خمسًا أو عشرًا، مثلاً، يتقيد بها ولا يزاد عليها.
ولعل السر في ذلك أن تحديد نسبة معينة لجميع السلع، في جميع البيئات وفي جميع الأوقات، وفي جميع الأحوال، ولجميع الفئات، أمر لا يحقق العدالة دائمًا.
فهناك فرق بين المال الذي يدور بسرعة بطبيعته كالأطعمة ونحوها، بحيث يدور في السنة عدة مرات، وبين المال البطيء الدوران الذي لا يدور في السنة إلا مرة، وقد تمضي أكثر من سنة، دون أن يتحرك، فالربح في الأول ينبغي أن يكون أقل من الربح في الأخير.
وهناك فرق بين من يبيع قليلاً ومن يبيع كثيرًا، وكذلك بين رأس المال القليل التافه ورأس المال الكثير الوافر، فإن ربح القليل في المال الكثير كثير.
وثمة فرق كذلك بين من يبيع حالاً، ومن يبيع بالأجل، فالمعروف أن البيع الحال المقبوض يكون الربح فيه أقل، على حين تكون نسبة الربح في البيع المؤجل أعلى، نظرًا لما فيه من احتمال إعسار المشتري أو مطله، أو تلف ماله بوجه من الوجوه، وبهذا يهلك مال البائع، فضلاً عن تعطيل ماله هذه المدة. وقد أجاز جمهور العلماء الزيادة في الثمن إذا زيد في الأجل، إذا عرف ذلك من أول الأمر، وتحدد بوضوح. وهو مقابل بيع “السلم” الذي تباع فيه السلعة مؤجلة بأقل من الثمن المعتاد.
وأيضًا يوجد فرق بين السلع الضرورية، أو الحاجية، التي يفتقر إليها جمهور الناس وبخاصة الضعفاء والفقراء منهم والسلع الكمالية التي لا يشتريها إلا الأثرياء.
ففي الأولى ينبغي أن يقلل الربح رفقًا بذوي الضعف والحاجة، وفي الثانية يمكن أن يكون أكثر، إذ من الميسور الاستغناء عنها.
ولهذا شدد الشارع في احتكار الأقوات والأطعمة خاصة أكثر من غيرها، لاشتداد حاجة الناس بل ضرورتهم إليها، ولهذا أيضًا حرم احتكارها بالإجماع، وجري الربا فيها بالإجماع، ووجبت الزكاة فيها بالإجماع.
وكذلك ينبغي التفريق بين من يحصل من التجار على السلعة بسهولة، ومن يجهد ويتعب في جلبها من مصادرها. وكذلك بين من يبيع السلعة كما هي، ومن يدخل عليها تحويلات تكاد تجعلها سلعة أخري.
كما أن ثمة فرقًا بين من اشتري برخص كأن اشتري السلعة من منتجها بلا وسائط بسعر نازل، ومن اشتراها بعد تداول عدة وسائط لها، بسعر مرتفع، فشأن الأول أن يربح أكثر من الآخر.
والمقصود أنه لا يوجد في نصوص القرآن الكريم، ولا في السنة ما يجعل للربح حدًا معينًا أو نسبة معلومة، والظاهر أن ذلك ترك لضمير الفرد المسلم، وعرف المجتمع من حوله، مع مراعاة قواعد العدل والإحسان، ومنع الضرر والضرار، التي تحكم تصرفات المسلم وعلاقاته كلها.
فالإسلام لا يفصل بين الاقتصاد والأخلاق، خلافًا لفلسفة النظام الرأسمالي الذي يجعل “الربح” المادي الفردي، هو الهدف الأول، والمحرك الأكبر، للنشاط الاقتصادي الذي لا يتقيد بكثير من القيود التي يقيده بها الإسلام. فلا حرج في ابتغاء الربح عن طريق الربا أو الاحتكار، أو بيع المسكرات، أو غيرها مما يضر بالجماعة، ويدر الربح على الأفراد.
أما الإسلام فله قيود وضوابط دينية وأخلاقية وتنظيمية، يوجب على كل تاجر رعايتها والوقوف عندها، وإلا كان ربحه حرامًا أو مشوبًا بالحرام.
هذا، ولم نجد في كلام الفقهاء في حدود ما أتيح لنا الاطلاع عليه ولم نبحث كل البحث ما يدل على تحديد نسبة معينة للربح يلتزمها التاجر في تجارته.
إلا ما ذكره العلامة الزيلعي من علماء الحنفية في تعريف ما ذكره صاحب “الهداية” وغيره من شرعية التسعير إذا تعدي أصحاب الطعام تعديًا فاحشًا.
فقد عرف الزيلعي التعدي الفاحش بأنه البيع بضعف القيمة (الزيلعي 6/ 28 انظر: ابن عابدين 5 /256). ولكنه لم يبين المراد بالقيمة: هل هي ثمن المثل في السوق في مثل هذا الوقت؟ حينئذ لا تلازم بين القيمة والربح؟ أو القيمة ثمن الشراء الذي اشتريت به السلعة، وهنا يكون الربح محددًا بألا يزيد علي مائة في المائة؟
وقد شاع لدي كثيرين أن في علماء المالكية من يحدد نسبة الربح بالثلث ولم أعثر على مصدر لهذه الدعوي. ونخشى أن يكون ثمت خلط بين الربح والغبن، ولا تلازم بينهما كما ذكرنا في أول البحث.

لكننا بتوفيق من الله تبارك وتعالى وجدنا في صحيح السنة المشرفة، وفي عمل الصحابة -رضي الله عنهم-، ما يدل على أن الربح إذا سلم من كل أسباب الحرام وملابساته، فهو جائز ومشروع إلى حد يمكن لصاحب السلعة أن يربح فيها ضعف رأسماله مائة في المائة (100 %) بل أضعاف رأس ماله، مئات في المائة. والدليل:
مشروعية الربح إلي مائة في المائة (100 %) :
قد صح الحديث عن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- بما يدل علي مشروعية الربح إلي مائة في المائة (100%) .
وهذا في الحديث الذي أخرجه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجة عن عروة بن الجعد أو ابن أبي الجعد البارقي رضي الله عنه.
روي الإمام أحمد في مسنده عن عروة قال: عرض للنبي -صلي الله عليه وسلم- جلب، فأعطاني دينارًا، وقال: “أي عروة، ائت الجلب فاشتر لنا شاة”. فأتيت الجلب، فساومت صاحبه، فاشتريت منه شاتين بدينار، فجئت أسوقهما أو قال: أقودهما فلقيني رجل فساومني، فبعته شاة بدينار، فجئت بالدينار وجئت بالشاة، فقلت: يا رسول الله، هذا ديناركم، وهذه شاتكم قال: “وصنعت كيف”؟‍‍‍‍‍‍‍‍‍ قال: فحدثته الحديث.. فقال: “اللهم بارك له في صفقة يمينه”. فلقد رأيتني أقف بكناسة الكوفة، فأربح أربعين ألفًا قبل أن أصل إلي أهلي. (مسند أحمد 4 / 376 ط المكتب الإسلامي. وأي في قوله -صلي الله عليه وسلم- أي عروة: حرف نداء).
ورواه الترمذي بنحوه. (رواه في البيوع حديث 1258).
وروي الإمام البخاري في “كتاب المناقب” من صحيحه عن عروة: أن النبي -صلي الله عليه وسلم- أعطاه دينارًا يشتري له به شاة، فاشتري له به شاتين، فباع إحداهما بدينار، فجاء بدينار وشاة فدعا له بالبركة في بيعه، وكان لو اشتري التراب لربح فيه. (انظر: الحديث (3642) فتح الباري 6 /632 دار الفكر بتصحيح وتحقيق الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز. والحديث من طريق شبيب بن غرقدة قال: سمعت الحي يتحدثون عن عروة. و (الحي) وإن جهل حالهم، يمتنع تواطؤهم على الكذب، كما قال الحافظ، بالإضافة إلى ورود الحديث من الطريق الأخري التي هي الشاهد لصحته ورواها أحمد وغيره. الفتح: 6 / 635، فما قاله الإمام الخطابي في ترجيح مذهب الشافعي في عدم إجازة بيع الفضولي ورده خبر عروة (أن الحي حدثوه) وما كان هذا سبيله من الرواية لم تقم به الحجة، معالم السنن 5 /49 لا وجه له بعد أن أخرج البخاري الحديث، فقد جاز القنطرة فضلاً عن الطريق الأخري).
ورواه أبو داود في كتاب البيوع من سننه باب في المضارب يخالف بنحو ما رواه البخاري (انظر: الحديث (3384) ط. حمص إعداد وتعليق عزت عبيد الدعاس). وذكره المنذري في مختصر السنن (الحديث (3244) من مختصر السنن مع معالم السنن للخطابي، وتهذيب السنن لابن القيم بتحقيق محمد حامد الفقي، ط. السنة المحمدية، مصر). قال: وأخرجه الترمذي وابن ماجة (أخرجه الترمذي في البيوع حديث (1258) وابن ماجة في الصدقات، حديث (2402) باب الأمين يتجر فيه فيربح).
وروي أبو داود أيضًا عن حكيم بن حزام رضي الله عنه: أن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- بعث معه بدينار يشتري له أضحية، فاشتراها بدينار، وباعها بدينارين، فرجع فاشتري له أضحية بدينار وجاء بدينار إلى النبي -صلي الله عليه وسلم- فتصدق به النبي -صلي الله عليه وسلم- ودعا له أن يبارك له في تجارته. (رواه في البيوع حديث (3386) عن طريق سفيان عن أبي حصين عن شيخ من أهل المدينة، وهو مجهول، فالحديث ضعيف بذلك).
ورواه الترمذي من حديث حبيب بن أبي ثابت عن حكيم بن حزام. قال: وحبيب لم يسمع عندي من حكيم. (الترمذي في البيوع حديث 1257).
مشروعية الربح أكثر من ذلك:
ومن الأدلة علي مشروعية الربح بغير حد إذا لم يأت عن طريق غش ولا احتكار ولا غبن ولا ظلم بوجه ما ما صح أن الزبير بن العوام -رضي الله عنه- وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشوري، وحواري رسول الله -صلي الله عليه وسلم- وابن عمته اشتري أرض الغابة، وهي أرض عظيمة شهيرة من عوالي المدينة بمائة وسبعين ألفًا (170000) فباعها ابن عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهم- بألف ألف وستمائة ألف، أي مليون وستمائة ألف (1600000) أي أنه باعها بأكثر من تسعة أضعافها!
ويحسن أن نسوق الحديث من الجامع الصحيح للإمام البخاري، كما رواه بسنده عن عبد الله بن الزبير، وقد ساقه في كتاب فرض الخمس، باب بركة الغازي في ماله حيًا وميتًا “حديث 3129 “.
قال عبد الله بن الزبير:
“لما وقف الزبير يوم الجمل دعاني فقمت إلي جنبه، فقال: يا بني إنه لا يقتل اليوم إلا ظالم أو مظلوم، وإني لا أراني إلا سأقتل اليوم مظلومًا، وإن من أكبر همي لديني، أفتري يُبقي ديننا من مالنا شيئا؟ فقال: يا بني بع مالنا فاقض ديني، وأوصي بالثلث، وثلثه لبنيه، يعني عبد الله بن الزبير يقول ثلث الثلث، فإن فضل من مالنا بعد قضاء الدين شيء فثلثه لولدك، قال هشام: وكان بعض ولد عبد الله قد وازي بعض بني الزبير خبيب وعباد، وله يومئذ تسعة بنين وتسع بنات، قال عبد الله: فجعل يوصيني بدينه ويقول: يا بني إن عجزت عن شيء منه فاستعن عليه مولاي، قال: فوالله ما دريت ما أراد حتي قلت: يا أبت من مولاك؟ قال: الله! قال: فوالله ما وقعت في كربة من دينه إلا قلت: يا مولي الزبير اقض عنه دينه! فيقضيه، فقتل الزبير رضي الله عنه، ولم يدع دينارًا ولا درهما، إلا أرضين منها الغابة وإحدي عشرة دارًا بالمدينة، ودارين بالبصرة، ودارًا بالكوفة، ودارًا بمصر.
قال: وإنما كان دينه الذي عليه أن الرجل كان يأتيه بالمال فيستودعه إياه، فيقول الزبير: لا، ولكنه سلف، فإني أخشى عليه الضيعة. وما ولي إمارة قط، ولا جباية خراج، ولا شيئًا إلا أن يكون في غزوة مع النبي -صلي الله عليه وسلم-، أو مع أبي بكر وعمر وعثمان -رضي الله عنهم-. قال عبد الله بن الزبير: فحسبت ما عليه من الدين فوجدته ألفي ألف ومائتي ألف، قال: فلقي حكيم بن حزام عبد الله بن الزبير فقال: يا ابن آخي كم على آخي من الدين؟ فكتمته فقال: مائة ألف، فقال حكيم: والله ما أري أموالكم تسع لهذه! فقال له عبد الله: أفرأيتك إن كانت ألفي ألف ومائتي ألف؟ قال: ما أراكم تطيقون هذا، فإن عجزتم عن شيء منه فاستعينوا بي.
قال: وكان الزبير اشتري الغابة بسبعين ومائة ألف، فباعها عبد الله بألف ألف وستمائة ألف، ثم قام فقال: من كان له على الزبير حق، فليوافنا بالغابة، فأتاه عبد الله بن جعفر، وكان له على الزبير أربعمائة ألف، فقال لعبد الله: إن شئتم تركتها، قال عبد الله: لا، قال: فإن شئتم جعلتموها فيما تؤخرون إن أخرتم، فقال عبد الله: لا. قال: فاقطعوا لي قطعة، فقال عبد الله: لك من هاهنا، قال: فباع منها فقضي دينه فأوفاه، وبقي منها أربعة أسهم ونصف، فقدم على معاوية وعنده عمرو بن عثمان والمنذر بن الزبير وابن زمعة، فقال له معاوية: كم قومت الغابة؟ قال: كل سهم مائة ألف، قال: كم بقي؟ قال: أربعة اسهم ونصف، قال المنذر بن الزبير: قد أخذت سهمًا بمائة ألف، قال عمرو بن عثمان: قد أخذت سهمًا بمائة ألف، وقال ابن زمعة: قد أخذت سهمًا بمائة ألف، فقال معاوية: كم بقي؟ فقال: سهم ونصف، قال: أخذته بخمسين ومائة ألف. قال: وباع عبد الله بن جعفر نصيبه من معاوية بستمائة ألف…”.
والحديث موقوف، ولكن عبد الله بن الزبير، وهو صحابي، باع ما باعه من الغابة لعبد الله بن جعفر، وهو صحابي، ولمعاوية، وهو صحابي، وكثير من الصحابة أحياء متوافرون، إذ تم ذلك في عهد علي رضي الله عنه، ولم ينكر ذلك أحد منهم، مع اشتهار الواقعة واتصالها بحقوق كثير من الصحابة وأبنائهم، فدل ذلك على إجماعهم علي الجواز.
وأحب أن ننبه هنا على أن دلالة الوقائع التي ذكرناها من العصر النبوي والعصر الراشدي على جواز بلوغ الربح في بعض الأحيان إلى ضعف رأس المال، أو أضعافه، لا تعني أن كل صفقة يجوز فيها الربح إلى هذا الحد، فإن الوقائع التي ذكرناها من حديث عروة، وحديث حكيم بن حزام إن صح وحديث عبد الله بن الزبير، هي في الحقيقة وقائع أعيان أو أحوال لا عموم لها. ولا يمكن أن يؤخذ منها حكم عام دائم مطرد، لكل تجار الأمة في كل زمان ومكان، وفي كل الأحوال، وكل السلع. ولا سيما الذين يتاجرون في السلع الضرورية لجماهير الناس.
كما أن الواقعات المذكورة لم تقترن بأي محاولة من محاولات إغلاء السعر على الناس أو أي لون من احتكار السلعة، أو غبن المشتري، أو استغلال غفلته أو حاجته أو التدليس عليه، أو ظلمه بأي وجه من الوجوه.
فهذا لو وقع يجعل الربح الحاصل من الصفقة حرامًا، إذ كل ربح يأتي ثمرة لتعامل يحظره الشرع، فإنه لا يطيب لكاسبه ولا يحل بحال من الأحوال. والمسلم لا يرضي أن يربح الدنيا، ويخسر الآخرة.
وهذا ما نحاول أن نبينه بإيجاز فيما يلي:
الربح المحرم:
من المعلوم أن من ربح التجارة ما هو محرم بلا نزاع.
وذلك له جملة صور وأسباب، منها:
الربح بالاتجار في المحرمات:
ما جاء عن طريق الاتجار في أعيان محرمة شرعًا مثل الاتجار في المسكرات، والمخدرات، وبيع الميتة والأصنام، ومنها: التماثيل المحرمة، وكل ما يضر بالناس مثل الأغذية الفاسدة، والأشربة الملوثة، والمواد الضارة، والأدوية المحظورة، ونحوها..
وقد جاء في عدد من الأحاديث النهي عن بيع الأعيان المحرمة، والانتفاع بثمنها.
فعن جابر: أنه سمع النبي -صلي الله عليه وسلم- يقول: “إن الله حرم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام”.. وفيه: “قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم شحومها جملوه أي أذابوه ثم باعوه وأكلوا ثمنه” رواه الجماعة. (انظر: الحديث (277) من منتقي الأخبار لأبي البركات ابن تيمية بتحقيق محمد حامد الفقي، ط. دار المعرفة، بيروت، الثانية. وانظر: إرواء الغليل للألباني (1290) ط. المكتب الإسلامي بيروت).
وعن ابن عباس أن النبي -صلي الله عليه وسلم- قال: “لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم، فباعوها وأكلوا أثمانها، وإن الله إذا حرم علي قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه” رواه أحمد وأبو داود. (انظر: الحديث (2778) من المنتقي السابق. وذكره الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته برقم 5107) .
قال أبو البركات ابن تيمية: وهو حجة في تحريم بيع الدهن النجس.
وعن ابن عباس أيضًا قال: نهي النبي -صلي الله عليه وسلم- عن ثمن الكلب وقال: “إن جاءك يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه ترابا” رواه أحمد وأبو داود. (انظر: الحديث (2781) من المنتقي المذكور. وانظر الحديث (3488) من سنن أبي داود ط. حمص).
وعن عائشة أن النبي -صلي الله عليه وسلم- قال: “حرمت التجارة في الخمر” رواه الشيخان وأبو داود وابن ماجة. (رواه البخاري في المساجد والبيوع والتفسير، ومسلم في المساقاة حديث (1580) وأبو داود في البيوع (759) . وابن ماجة في التجارات برقم 2167).
وعن ابن عمر أن النبي -صلي الله عليه وسلم- قال: “لعن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه” رواه أبو داود وابن ماجة، وزاد: “وآكل ثمنها. (رواه أبو داود، في الأشربة حديث (3674) وابن ماجة في الأشربة أيضًا، حديث (3380) وأوله: “لعنت الخمر علي عشرة أوجه…”).
ذكره المجد ابن تيمية في “المنتقي” في “باب تحريم بيع العصير لمن يتخذه خمرًا، وكل بيع أعان على معصية” انظر: المنتقي 2 / 321.
ومن هذه الأحاديث يتبين أن الربح الذي يتحقق من هذا اللون من التجارة في المحرمات، ربح خبيث محرم، قلت نسبته أو كثرت.

الربح عن طريق الغش والتدليس:
ومثل ذلك الربح عن طريق الغش والتدليس التجاري، بإخفاء عيوب السلعة، أو إظهارها بصورة خادعة، تغاير حقيقتها، تلبيسًا علي المشتري. وقد يدخل في ذلك الدعاية الإعلانية المبالغ فيها، التي تضلل المشتري عن واقع السلعة.
وقد برئ النبي -صلي الله عليه وسلم- ممن غش وقال: “من غشنا فليس منا” رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي. (انظر: المنتقي جـ2 حديث 2937).
وعن عطية بن عامر قال: سمعت رسول الله -صلي الله عليه وسلم- يقول: “المسلم أخو المسلم لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعًا وفيه عيب إلا بينه له” رواه أحمد وابن ماجة. (وقال الحافظ في الفتح: إسناد حسن انظر الحديث (2935) من (المنتقي) .، وتعليق المحقق عليه).
وكان الصحابة والسلف -رضي الله عنهم- يرون إظهار عيوب السلعة من النصيحة التي بها يصح دين المسلم ويستقيم. وكان جرير بن عبد الله إذا قام إلي السلعة يبيعها، بصر المشتري بعيوبها، ثم خيره، وقال: إن شئت فخذ، وإن شئت فاترك. فقيل له: إنك إذا فعلت هذا لم ينفذ لك بيع فقال: ” إنا بايعنا رسول الله -صلي الله عليه وسلم- على النصح لكل مسلم”. (ذكر ذلك الغزالي في الإحياء / 2 /76 وقوله: بايعنا رسول الله… إلخ، ثابت في الصحيحين).
وكان واثلة بن الأسقع واقفًا، فباع رجل ناقة له بثلاثمائة درهم فغفل واثلة، وقد ذهب الرجل بالناقة، فسعي وراءه وجعل يصيح به: يا هذا، اشتريتها للحم أو للظهر؟ فقال: بل للظهر، فقال: إن بخفها نقباً قد رأيته، وأنها لا تتابع السير، فعاد فردها، فنقصها البائع مائة درهم، وقال لواثلة: رحمك الله أفسدت علي بيعي! فقال: إنا بايعنا رسول الله -صلي الله عليه وسلم- على النصح لكل مسلم، وقال: سمعت رسول الله -صلي الله عليه وسلم- يقول: “لا يحل لأحد يبيع بيعًا إلا أن يبين ما فيه، ولا يحل لمن يعلم ذلك إلا بينه”. (قال الحافظ العراقي: حديث واثلة: “لا يحل لأحد يبيع بيعًا…” الحديث أخرجه الحاكم وقال: صحيح الإسناد، والبيهقي، الإحياء 2 /86 ط. دار الكتب العلمية، بيروت).
قال الإمام الغزالي معقبًا علي هذه الواقعة:
(فقد فهموا من النصح ألا يرضي لأخيه إلا ما يرضاه لنفسه، ولم يعتقدوا أن ذلك من الفضائل وزيادة المقامات، بل اعتقدوا أنه من شروط الإسلام الداخلة تحت بيعتهم، وهذا أمر يشق علي أكثر الخلق، فلذلك يختارون التخلي للعبادة والاعتزال عن الناس، لأن القيام بحقوق الله مع المخالطة والمعاملة مجاهدة لا يقوم بها إلا الصديقون). (إحياء علوم الدين 2 /76 كتاب أدب الكسب والمعاش، ط. دار المعرفة، بيروت).
التدليس بإخفاء سعر الوقت:
ويدخل في ذلك أو يقرب منه: التدليس في سعر الوقت، فالواجب كما ذكر الغزالي أن يصدق في سعر الوقت ولا يخفي منه شيئان فقد نهي رسول الله -صلي الله عليه وسلم- عن تلقي الركبان. (حديث النهي عن تلقي الركبان: متفق عليه من حديث ابن عباس وأبي هريرة).
ونهي عن النجش. (حديث النهي عن النجش: متفق عليه من حديث ابن عمر وأبي هريرة).
أما تلقي الركبان، فهو أن يستقبل الرفقة، ويتلقي المتاع، ويكذب في سعر البلد، فقد قال -صلي الله عليه وسلم- : “لا تتلقوا الركبان ومن تلقاها فصاحب السلعة بالخيار بعد أن يقدم السوق” (روي معني هذا الحديث الجماعة إلا البخاري. انظر المنتقي رقم 2842) وهذا الشراء منعقد، ولكنه إن ظهر كذبه ثبت للبائع الخيار، وإن كان صادقًا ففي الخيار خلاف، لتعارض عموم الخبر مع زوال التلبيس. (أقول: واتباع الخبر أولي).
ونهي أيضًا أن يبيع حاضر لباد (رواه البخاري وغيره عن ابن عمر، ورواه الجماعة إلا الترمذي: عن ابن عباس. والشيخان عن أنس). وهو أن يقدم البدوي البلد ومعه قوت يريد أن يتسارع إلى بيعهن فيقول له الحضري: اتركه عندي حتي أغالي في ثمنهن وأنتظر ارتفاع سعره، وهذا في القوت محرم، وفي سائر السلع خلاف، والأظهر تحريمه لعموم النهي، ولأنه تأخير للتضييق علي الناس علي الجملة، من غير فائدة للفضولي المضيق.
وأما النجش فهو: أن يتقدم إلي البائع بين يدي الراغب المشتري، ويطلب السلعة بزيادة. وهو لا يريدها، وإنما يريد تحريك رغبة المشتري فيها فهذا إن لم تجر مواطأة مع البائع، فهو فعل حرام من صاحبه، والبيع منعقد وإن جري مواطأة ففي ثبوت الخيار خلاف، والأولى إثبات الخيار، لأنه تغرير بفعل يضاهي التغرير في المصراة وتلقي الركبان.
قال الإمام الغزالي: (فهذه المناهي تدل على أنه لا يجوز أن يلبس علي البائع والمشتري في سعر الوقت ويكتم منه أمرًا لو علمه لما أقدم على العقد، ففعل هذا من الغش الحرام، المضاد للنصح الواجب.
فقد حكي عن رجل من التابعين أنه كان بالبصرة وله غلام بالسوس يجهز إليه السكر، فكتب إليه غلامه: إن قصب السكر قد أصابته آفة في هذه السنة، فاشتر السكر، قال: فاشتري سكرًا كثيرًا، فلما جاء وقته ربح فيه ثلاثين ألفًا فانصرف إلى منزله فتفكر ليلته وقال: ربحت ثلاثين ألفًا وخسرت نصح رجل من المسلمين، فلما أصبح غدا إلى بائع السكر فدفع إليه ثلاثين ألفًا وقال: بارك الله لك فيها، فقال: ومن أين صارت لي؟ فقال: إني كتمتك حقيقة الحال، وكان السكر قد غلا في ذلك الوقت، فقال: رحمك الله قد أعلمتني الآن وقد طيبتها لك، قال: فرجع بها إلى منزله وتفكر وبات ساهرًا وقال: ما نصحته، فلعله استحيا مني فتركها لي، فبكر إليه من الغد، وقال: عافاك الله، خذ مالك إليك فهو أطيب لقلبي، فأخذ منه ثلاثين ألفا!
فهذه الأخبار في المناهي والحكايات تدل على أنه ليس له أن يغتنم فرصة، وينتهز غفلة صاحب المتاع، ويخفي من البائع غلاء السعر أو من المشتري تراجع الأسعار، فإن فعل ذلك كان ظالمًا تاركًا للعدل والنصح للمسلمين، ومهما باع مرابحة بأن يقول: بعت بما قام على أو بما اشتريته، فعليه أن يصدق، ثم يجب عليه أن يخبر بما حدث بعد العقد من عيب أو نقصان، ولو اشتري إلى أجل وجب ذكره، ولو اشتري مسامحة من صديقه أو ولده يجب ذكره، لأن المعامل يعول على عادته في الاستقصاء أنه لا يترك النظر لنفسه، فإذا تركه بسبب من الأسباب فيجب إخباره، إذ الاعتماد فيه على أمانته). (إحياء علوم الدين 2 /78، 79).
الربح عن طريق الغبن الفاحش:
وينبغي ألا يغبن صاحبه بما لا يتغابن به في العادة فأما أصل المغابنة فمأذون فيه، لأن البيع للربح ولا يمكن ذلك إلا بغبن ما، ولكن يراعي فيه التقريب، فإن بذل المشتري زيادة على الربح المعتاد إما لشدة رغبته أو لشدة حاجته في الحال إليه فينبغي أن يمتنع من قبوله، فذلك من الإحسان. ومهما لم يكن تلبيس لم يكن أخذ الزيادة ظلمًا. وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الغبن بما يزيد على الثلث يوجب الخيار، ولسنا نري ذلك، ولكن من الإحسان أن يحط ذلك الغبن.
ويروي أنه كان عند يونس بن عبيد حلل مختلفة الأثمان: ضرب قيمة كل حلة منها أربعمائة، وضرب كل حلة قيمتها مائتان، فمر إلى الصلاة وخلف ابن أخيه في الدكان، فجاء أعرابي وطلب حلة بأربعمائة، فعرض عليه من حلل المائتين، فاستحسنها ورضيها فاشتراها فمضي بها وهي على يديه، فاستقبله يونس فعرف حلته، فقال للأعرابي: بكم اشتريت؟ فقال: بأربعمائة، فقال: لا تساوي أكثر من مائتين، فارجع حتي تردها، فقال: هذه تساوي في بلدنا خمسمائة وأنا أرتضيها، فقال له يونس: انصرف فإن النصح في الدين خير من الدنيا بما فيها، ثم رده إلي الدكان، ورد عليه مائتي درهم، وخاصم ابن أخيه في ذلك وقاتله وقال: أما استحييت؟ أما اتقيت الله؟ تربح مثل الثمن وتترك النصح للمسلمين؟ فقال: والله ما أخذها إلا وهو راض بها. قال: فهلا رضيت له بما ترضاه لنفسك؟! وهذا إن كان فيه إخفاء سعر وتلبيس، فهو من باب الظلم، وقد سبق يعني أنه محرم وفي الحديث: “غبن المسترسل حرام”. (قال الحافظ العراقي: حديث “غبن المسترسل حرام” أخرجه الطبراني من حديث أبي أمامة بسند ضعيف، والبيهقي من حديث جابر بسند جيد وقال: “ربا” بدل “حرام”).
وكان الزبير بن عدي يقول: أدركت ثمانية عشر من الصحابة ما منهم أحد يحسن يشتري لحمًا بدرهم. فغبن مثل هؤلاء المسترسلين ظلم، وإن كان من غير تلبيس فهو من ترك الإحسان، وقلما يتم هذا إلا بنوع تلبيس وإخفاء سعر الوقت.
ثم ضرب الغزالي مثلاً للإحسان المحض في المعاملة، وهو أمر فوق العدل الواجب، بما روي عن محمد بن المنكدر: أنه كان له شقق بعضها بخمسة وبعضها بعشرة، فباع غلامه في غيبته شقة من الخمسيات بعشرة، فلما عرف لم يزل يطلب ذلك الأعرابي المشتري طول النهار حتي وجده، فقال له: إن الغلام قد غلط فباعك ما يساوي خمسة بعشرة فقال: يا هذا قد رضيت فقال: وإن رضيت فإنا لا نرضى لك إلا ما نرضاه لأنفسنا، فاختر إحدى ثلاث خصال: إما أن تأخذ شقة من العشريات بدراهمك، وإما أن نرد عليك خمسة، وإما أن ترد شقتنا وتأخذ دراهمك، فقال: أعطني خمسة، فرد عليه خمسة وانصرف الأعرابي.
قال الغزالي: فهذا إحسان في ألا يربح علي العشرة إلا نصفًا أو واحدًا على ما جرت به العادة في مثل ذلك المتاع في ذلك المكان ومن قنع بربح قليل كثرت معاملاته واستفاد من تكررها ربحًا كثيرًا، وبه تظهر البركة.
وكان علي -رضي الله عنه- يدور في سوق الكوفة بالدرة ويقول: معاشر التجار، خذوا الحق تسلموا، لا تردوا قليل الربح فتحرموا كثيره.
وقيل لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: ما سبب يسارك؟ قال: ثلاث، ما رددت ربحًا قط، ولا طلب مني حيوان فأخرت بيعه، ولا بعت بنسيئة، ويقال: إنه باع ألف ناقة، فما ربح إلا عقلها، باع كل عقال بدرهم فربح فيها ألفًا، وربح من نفقته عليها ليومه ألفًا.

الربح عن طريق الاحتكار:

ومن الربح الذي لا يحل لتاجر مسلم: ما جاء عن طريق الاحتكار الذي نهي عنه الشرع.
فقد روي الإمام مسلم في صحيحه عن النبي -صلي الله عليه وسلم- : “لا يحتكر إلا خاطئ. (رواه في كتاب المساقاة من صحيحه).
والخاطئ هو الآثم، وقد وصف الله أكثر الطغاة المستكبرين بهذا الوصف حين قال تعالي: (إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين). (القصص: 8).

وروي أحمد والحاكم من حديث ابن عمر عنه -صلي الله عليه وسلم- : “من احتكر الطعام أربعين يومًا فقد برئ من الله، وبرئ الله منه”. (قال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: رواه أحمد والحاكم بسند جيد. وحسنه الحافظ في: الفتح وقواه في: القول المسدد في الذب عن المسند ردًا علي ابن الجوزي الذي ذكره في: الموضوعات وعضده بجملة شواهد وأيده السيوطي ونقل ذلك عنه في: اللآلئ المصنوعة 2 /147،148).
وعن علي رضي الله عنه: “من احتكر الطعام أربعين يومًا قسا قلبه”.
وعنه أيضا: “أنه أحرق طعام محتكر بالنار”. (نقل ذلك الغزالي في: الإحياء 2 /72، 73).
وقيل في قوله تعالي في شأن المسجد الحرام: (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم) (الحج: 25). إن الاحتكار من الظلم وداخل تحته في الوعيد.
والاحتكار: أن يحبس التاجر السلعة ينتظر بها غلاء الأسعار.
وهو يدل على نزعة أنانية، لا يبالي صاحبها بما يقع من أذي وضرر على جمهور الناس، ما دام هو يجني من وراء ذلك أرباحًا طائلة. ويتفاقم الضرر إذا كان التاجر هو البائع الوحيد للسلعة، أو تواطأ مجموعة التجار الذين يبيعون السلعة على إخفائها وحبسها، حتي يشتد الطلب عليها، فيغلوا سعرها، ويفرضوا فيها الثمن الذي يريدون. وهذا هو شأن النظام الرأسمالي الذي يقوم علي دعامتين رئيستين هما: الربا والاحتكار.

ما الذي يحرم احتكاره من السلع:

وللفقهاء هنا خلاف حول أمرين: الجنس الذي يحرم احتكاره من السلع ما هو؟ والوقت الذي يحرم فيه الاحتكار.
فمن الفقهاء من قصر الاحتكار على “الأقوات” لا يتجاوزها. قال الغزالي: (أما ما ليس بقوت ولا هو معين علي القوت، كالأدوية والعقاقير والزعفران وأمثاله، فلا يتعدي النهي إليه، وإن كان مطعومًا. وأما ما يعين على القوت كاللحم والفواكه وما يسد مسدًا يغني عن القوت في بعض الأحوال، وإن كان لا يمكن المداومة عليه، فهذا في محل النظر، فمن العلماء من طرد التحريم في السمن والعسل والشيرج والجبن والزيت، وما يجري مجراه). (الإحياء 2 /73 ط. دار المعرفة، بيروت).

ويفهم من كلام الغزالي هنا أنهم يعتبرون “القوت” محصورًا في الطعام الجاف مثل الخبز والأرز بلا سمن ودون إدام. حتي الجبن والزيت والسمسم ونحوها اعتبرت خارج دائرة القوت.
وهذا الذي ذكروه من القوت، لا يكتفي به الطب الحديث غذاءًا صحيحًا للإنسان، إذ لابد أن تتوافر في الغذاء الصحي جملة عناصر ضرورية، منها: البروتينات والدهنيات والفيتامينات، وإلا أصبح الإنسان عرضة لأمراض سوء التغذية. كما أن الأدوية في عصرنا أصبحت أمرًا ضروريًا للناس، وكذلك الملبوسات ونحوها.
وحاجات الناس تتطور بتطور أنماط حياتهم وكم من أمر تحسيني أو كمالي أصبح حاجيًا وكم من حاجي غدا ضروريًا.
والأرجح في رأينا تحريم الاحتكار لكل ما يحتاج إليه الناس، طعامًا كان أو دواء أو لباسًا، أو أدوات مدرسية أو منزلية، أو مهنية، أو غير ذلك.
والدليل على ذلك عموم الحديث “لا يحتكر إلا خاطئ” أو “من احتكر فهو خاطئ” والنص على منع احتكار الطعام والوعيد عليه خاصة لا ينفي ذلك العموم.
وعلة النهي أيضًا تؤكد ذلك، وهي الإضرار بعموم الناس، نتيجة حبس السلعة، وحاجة الناس ليست إلى الطعام وحده، وخصوصًا في عصرنا، فالإنسان في حاجة إلى أن يطعم ويشرب، ويلبس ويسكن، ويتعلم، ويتداوي، ويتنقل، ويتواصل مع غيره بشتي الوسائل.
ومن هنا نرجح قول الإمام أبي يوسف في “الخراج”: (كل ما أضر بالناس حبسه فهو احتكار). (الخراج لأبي يوسف).
وكل ما تشتد حاجة الناس إليه يكون احتكاره أشد إثمًا، وفي مقدمة ذلك الطعام، وفي مقدمة الطعام القوت الضروري.

ما هو الوقت الذي يحرم فيه الاحتكار:

الخلاف في الوقت الذي يحرم فيه الاحتكار، فمن العلماء من طرد النهي في جميع الأوقات، ولم يفرق بين وقت الضيق ووقت السعة، آخذا بعموم النهي وعليه عمل الورعين من السلف.

قال الغزالي: (ويحتمل أن يخصص بوقت قلة الطعام، وحاجة الناس إليه حتي يكون في تأخير بيعه ضر ما، فأما إذا اتسعت الأطعمة، وكثرت واستغني الناس عنها، ولم يرغبوا فيها إلا بقيمة قليلة، فانتظر صاحب الطعام ذلك، ولم ينتظر قحطًا، فليس في هذا إضرار. إذا كان الزمان زمان قحط، كان في ادخار العسل والسمن والشيرج وأمثالها إضرار، فينبغي أن يقضي بتحريم، ويعول في نفي التحريم وإثباته علي الضرار، فإنه مفهوم قطعًا من تخصيص الطعام وإذا لم يكن ضرار، فلا يخلو احتكار الأقوات عن كراهية، فإنه ينتظر مبادئ الضرار، وهو ارتفاع الأسعار، وانتظار مبادئ الضرار محذور كانتظار عين الضرار، ولكنه دونه، وانتظار عين الضرار أيضًا هو دون الإضرار، فبقدر درجات الإضرار تتفاوت درجات الكراهية والتحريم.
وعن بعض السلف: أنه كان بواسط، فجهز سفينة حنطة إلي البصرة، وكتب إلى وكيله: بع هذا الطعام يوم يدخل البصرة، ولا تؤخره إلى غد، فوافق سعة في السعر فقال له التجار: لو أخرته جمعة ربحت فيه أضعافه، فأخره جمعة فربح فيه أمثاله، وكتب إلى صاحبه بذلك، فكتب إليه صاحب الطعام: يا هذا إنا كنا قنعنا بربح يسير مع سلامة ديننا، وإنك قد خالفت، وما نحب أن نربح أضعافه بذهاب شيء من الدين، فقد جنيت علينا جناية، فإذا أتاك كتابي هذا فخذ المال كله فتصدق به علي فقراء البصرة، وليتني أنجو من إثم الاحتكار كفافًا لا علي ولا لي). (الإحياء 2/73).

خاتمة:
وإذا كان الأصل جواز الربح بغير نسبة محددة للتاجر الملتزم بأحكام الإسلام وتوجيهاته في البيع والشراء، وترك السوق للعوامل الطبيعية – وهو ما يعبر عنه اليوم بقوانين العرض والطلب – دون تلاعب أو تدليس، أو تدخل مفتعل لإغلاء الأسعار على عموم الناس.. فهذا لا يمنع ولي الأمر المسلم – عندما يوجد شيء من ذلك – أن يتدخل بمقتضي عموم ولايته ومسئوليته، لتحديد أرباح الإتجار، بنسب معينة، قد تتفاوت بتفاوت السلع. وبمشورة أهل الرأي والبصيرة، كما عبر علماؤنا السابقون رحمهم الله تعالي. وهذا هو موضوع “التسعير” ومتي يجوز، ومتي لا يجوز، وما شروطه، إلخ.. وهو لا يخص التجار وحدهم، بل يشمل المنتجين أيضًا، وهو جدير ببحث مستقل بعنوانه الخاص.

والخلاصة التي نخرج بها من هذا البحث تتمثل فيما يلي:
1- إن ابتغاء الربح في التجارة أمر جائز ومشروع، بل هو مأمور به لمن لا يحسنون الاتجار لأنفسهم كاليتامي.
2- إن النصوص لم تحدد نسبة معينة للربح، بحيث لا يجوز تعديلها، بل وجد في السنة ما يدل علي جواز بلوغ الربح إلى ضعف رأس المال أو أضعافه.
3- إن جواز الربح الكثير لا يعني أنه مرغوب فيه دائمًا، بل القناعة بالربح القليل أقرب إلى هدي السلف وأبعد عن الشبهات.
4- إن الربح لا يحل للتاجر المسلم إلا إذا سلمت معاملاته التجارية من الحرام. فأما إذا اشتملت على محرم كالاتجار في الأعيان المحرمة، أو التعامل بالربا أو الاحتكار أو الغش والتدليس، أو إخفاء سعر الوقت أو التطفيف ونحوها فإن ما ترتب عليها من ربح يكون حرامًا.
5- إن القول بأن للتجار أن يربحوا بالحلال ما شاءوا في حدود القيم والضوابط التي ذكرناها، لا ينفي حق ولي الأمر المسلم في تحديد مقدار الربح أو نسبته، وخصوصًا في السلع التي يحتاج عموم الناس إليها، تحقيقًا للمصلحة لأكبر عدد من الناس، ومنعًا للضرر والضرار عن عباد الله.

والله تعالى أعلم.