حديث: “اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب . . . ” يرويه أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه عن النبي صلى الله عليه وسلم، و أبو هريرة أسلم في أواخر السنة السادسة عند فتح خيبر وقصة إسلامه مشهورة، و { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا } [الفتح:1]، كانت بعد ذلك بزمان،

فمن حيث الآية والحديث لا إشكال فيهما؛ لأنه حتى ولو فرض أن الحديث بعد إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بالمغفرة، فالعلماء ذكروا أن الأحاديث التي ورد فيها سؤال المغفرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قصد منها تعليم الأمة، وبعضهم يقول: تكون درجة زائدةً له، لأنه إذا استغفر المستغفر ربه وقد غفر الله له وليست عنده ذنوب بُدِّل بالاستغفار درجات.

فالاستغفار على كل حال مثاب عليه، فليس في هذا إشكال أبداً، سواء كان قبل المغفرة أو بعد المغفرة، فهذا ليس بمؤثر لأن قصد التعليم موجود، وزيادة الدرجة موجود، وأياً ما كان فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان أكمل الخلق خوفاً من الله والتجاءً إلى الله واعتصاماً بالله سبحانه وتعالى.

ولو وقع مثل ذلك بعد مغفرة الله له فإنه تعليم لكل عبد صالح أن لا يغتر بصلاحه، وأن يكون واثقاً بالله سبحانه وتعالى كثير الذلة لله جل جلاله.

فإذا كان أكرم الخلق على الله عز وجل يسأل المغفرة، ويختار لصديق الأمة لما سأله دعاءً يدعو به في صلاته دعاء المغفرة فكيف بنا؟ وذلك لأنه إذا غفر الله للعبد ذنبه كفاه شر الدنيا والآخرة، كل البلاء من الذنب { وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } [النساء:79]، فالشرور كلها من الذنوب، ولذلك لما وقف عليه الصلاة والسلام في الصلاة في هذا الحديث قال: ( اللهم باعد بيني وبين خطاياي )؛ لأنه يستقبل أعظم المواقف، وأجلها، وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، وهو موقف الصلاة.

فعلم الأمة أن تدعو بهذا الدعاء؛ لأنه ربما وقف العبد في صلاته فحال بينه وبين الخشوع ذنب من الذنوب، وربما حال بينه وبين قبول صلاته ذنب من الذنوب، وربما حال بينه وبين ساعة الإجابة وساعة القبول للصلاة ذنب من الذنوب، فيسأل الله أن يباعد بينه وبين أسباب الخذلان، ويسأل الله أن يباعد بينه وبين أسباب الحرمان، ويسأل الله أن يباعد بينه وبين سبب الذلة والقلة والفاقة ودمار الدين والدنيا والآخرة وكل ذلك من الذنوب.

فالذنب شره عظيم، وبلاؤه عظيم، ولما سأل صديق الأمة النبي عليه الصلاة والسلام أن يعلمه دعاء يدعو به في صلاته قال: ( قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ) فإذا كان صديق الأمة يقول: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً) فما بالنا ونحن أرباب الخطايا والذنوب، اللهم ارحمنا برحمتك.

والإنسان إذا نظر إلى مثل هذه الأحاديث وجدها تحتاج إلى تأمل ووقفات، ودعاء الاستفتاح دعاء عظيم، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يقول في استفتاحه، حتى في خطبة الحاجة كان يقول:(ونعوذ بالله من شرور أنفسنا)، فاستعاذ بالله من سبب الحرمان والخيبة والبلاء وهو الذنب.

ونعوذ بالله: أي نلتجئ ونعتصم بالله عز وجل الذي لا عصمة ولا التجاء إلا إليه سبحانه وتعالى.

من شرور أنفسنا: فالذنب كله شر وبلاء، فدعاؤه عليه الصلاة والسلام بمغفرة الذنب وسؤاله لله عز وجل تعليم للأمة، وكأنه ينبه على خطر الذنب وأنه ينبغي للأمة دائماً أن تكون في استغفار، ومن لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً ومن كل بلاء عافية.

وقل أن تجد إنساناً يُكثر من الاستغفار إلا وجدته في رحمة، وإن كمُل استغفاره كملت رحمة ربه له، فالمستغفر بلسانه ليس كالمستغفر بلسانه وقلبه، والمستغفر بلسانه وقلبه مستشعراً لعظمة ربه ليس كالذي يستشعر عظمة الله مع استشعاره لعظيم التفريط في جنب الله عز وجل، فيستغفر وهو يحس أنه مذنب، ويحس أنه ما كان له أن يعصي ربه، وأنه ينبغي أن ينيب إلى الله عز وجل من الذنوب والعصيان، ويسأل الله عز وجل العفو والمغفرة.

فهذه كلها حالات من وفق لصلاح دينه ودنياه وآخرته، فهذا الدعاء دعاء عظيم ( اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب )، والمشرق والمغرب لن يجتمعا، ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم بهما المثل.

فهذا الحديث كما ذكرنا إما أن يكون تعليماً للأمة، أو يكون استغفاراً حقيقياً، أو يجمع بين الأمرين: بين كونه عليه الصلاة والسلام تكون له بذلك درجة الاستغفار، ويكون تعليماً لأمته صلوات الله وسلامه عليه.