الزواج بنية الطلاق مسألة اختلف فيها الفقهاء:

-الرأي الأول: عند جمهور العلماء المتقدمين من الحنفية، والمالكية، والشافعية، ورواية عند الحنابلة يرون جواز هذه الصورة؛ وذلك لخلو العقد من التأقيت، ووقوع النكاح مطلقا، وقد  تعجبه فيمسكها، وإلا فيطلقها ولا يستطيع أحد أن يلزمه بنكاح لا يرغب فيه.

-الرأي الثاني: هو للإمام الأوزاعي والصحيح في مذهب الحنابلة ورأوا أنه لا فرق بين صورة النكاح بنية الطلاق وبين نكاح المتعة المتفق على بطلانه.

واختلف العلماء المعاصرون في هذه الصورة من صور النكاح، والقول بالتحريم تأيده اعتبارات عدة ينبغي الوقوف عليها.

وهذا خلاصة ما قاله الدكتور عطية فياض –أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر-:

إن من صور النكاح القديمة والمعاصرة: أن يتزوج الرجل المرأة وفي نيته أن يطلقها بعد مدة مع خلو صيغة العقد ظاهرا من التأقيت، وعدم إخبار المرأة أو وليها بهذه النية،  وقد انتشرت هذه الصورة في عصرنا الحاضر خاصة بين المبتعثين إلى بلاد الغرب بسبب كثرة الأسفار للتعلم أو للسياحة والتنزه أو للتجارة وغير ذلك، ويحتاج الرجل إلى إعفاف نفسه من الوقوع في الزنا، ومع ذلك لا يريد أن يرتبط بعقد زواج دائم مع امرأة من أهل تلك البلاد.

وقد نقل عن بعض العلماء المعاصرين وصيته للطلاب المبتعثين للدراسة في بلاد الغربباللجوء إلى هذه الصورة؛ حتى لا يقعوا في جريمة الزنا، وليس القول بإباحة الصورة المذكورة هو قول بعض العلماء المعاصرين بل هو قول جمهور العلماء المتقدمين من الحنفية، والمالكية، والشافعية، ورواية عند الحنابلة يرون جواز هذه الصورة؛ وذلك لخلو العقد من التأقيت، ووقوع النكاح مطلقا، وقد  تعجبه فيمسكها، وإلا فيطلقها ولا يستطيع أحد أن يلزمه بنكاح لا يرغب فيه، ورأوا فرقا بين صورة النكاح بنية الطلاق وبين النكاح المؤقت الصريح (المتعة) أو النكاح بشرط الطلاق بعد مدة ؛ لما في الصورتين الأخريين من تأقيت ظاهر بخلاف الأولى.

ويعتمد القول بإباحة هذه الصورة على النظر إلى صورة العقد وبنيته النظامية حيث يخلو العقد من شرط التأقيت، وهو الشرط المتفق على اعتباره مبطلا لعقد النكاح كما هو قول جمهور أهل السنة والجماعة والزيدية والإباضية، لكن القول بإباحة الصورة المذكورة يهمل النظر إلى مقصود الزوج من العقد بل والمآلات التي ينتهي إليها العقد بهذه الصورة وترى أنه لا وزن لها في المنع، وكل ما في الأمر أنه عمل غير أخلاقي يندرج في باب المروءات لا غير.

قال الباجي المالكي: “ومن تزوج امرأة لا يريد إمساكها إلا أنه يريد أن يستمتع بها مدة ثم يفارقها فقد روى محمد عن مالك ذلك جائز وليس من الجميل ولا من أخلاق الناس”[1]

وقال الإمام الشافعي: “وإن قدم رجل بلدا وأحب أن ينكح امرأة ونيته ونيتها أن لا يمسكها إلا مقامه بالبلد أو يوما أو اثنين أو ثلاثة كانت على هذا نيته دون نيتها أو نيتها دون نيته أو نيتهما معا ونية الولي، غير أنهما إذا عقدا النكاح مطلقا لا شرط فيه فالنكاح ثابت ولا تفسد النية من النكاح شيئا؛ لأن النية حديث نفس وقد وضع عن الناس ما حدثوا به أنفسهم وقد ينوي الشيء ولا يفعله وينويه ويفعله فيكون الفعل حادثا غير النية “.[2]

وقال الخطيب: “ولو نكح بلا شرط وفي عزمه أن يطلق إذا وطئ, كره وصح العقد وحلت بوطئه”.[3].

وفي المغني :” إن تزوجها بغير شرط , إلا أن في نيته طلاقها بعد شهر , أو إذا انقضت حاجته في هذا البلد , فالنكاح صحيح , في قول عامة أهل العلم , إلا الأوزاعي قال : هو نكاح متعة . والصحيح أنه لا بأس به , ولا تضر نيته , وليس على الرجل أن ينوي حبس امرأته وحسبه إن وافقته , وإلا طلقها.”[4].

وسئل ابن تيمية : عن رجل ركاض يسير البلاد في كل مدينة شهرا أو شهرين , ويعزل عنها ويخاف أن يقع في المعصية. فهل له أن يتزوج في مدة إقامته في تلك البلدة؟ وإذا سافر طلقها وأعطاها حقها أو لا؟  وهل يصح النكاح أو لا؟

الجواب: له أن يتزوج , لكن ينكح نكاحا مطلقا, لا يشترط فيه توقيتا, بحيث يكون إن شاء أمسكها وإن شاء طلقها, وإن نوى طلاقها حتما عند انقضاء سفره كره في مثل ذلك, وفي صحة النكاح نزاع, ولو نوى أنه إذا سافر وأعجبته أمسكها وإلا طلقها جاز ذلك”[5]

وقد خالف في هذه الصورة الإمام الأوزاعي، والصحيح في مذهب الحنابلة ورأوا أنه لا فرق بين صورة النكاح بنية الطلاق وبين نكاح المتعة المتفق على بطلانه .

قال المرداوي:” لو نوى بقلبه , فهو كما لو شرطه . على الصحيح من المذهب . نص عليه وعليه الأصحاب . قال في الفروع : وقطع الشيخ فيها بصحته مع النية . ونصه , والأصحاب على خلافه . انتهى 

وقيل : يصح . وجزم به في المغني , والشرح , وقالا : هذا قول عامة أهل العلم , إلا الأوزاعي كما لو نوى : إن وافقته وإلا طلقها .

قال الشيخ تقي الدين رحمه الله : لم أر أحدا من الأصحاب قال : لا بأس به وما قاس عليه لا ريب أنه موجب العقد , بخلاف ما تقدم . فإنه ينافيه ; لقصده التوقيت.”[6]

ولم تخرج فتاوى المعاصرين عن القولين المتقدمين كما لم تخرج توجيهاتهم عما ذكر .

ومع التقدير للقول بالإباحة، وأنه قول الجمهور إلا أنه ينبغي ألا تعتمد الفتوى المعاصرة على هذا القول ويرجح القول الثاني؛ وذلك للاعتبارات التالية:

أولا : أن للقصود اعتبارا في العقود، وفساد القصد قد يؤدي إلى فساد العقد، والزوج هنا ما قصد إقامة علاقة دائمة بل علاقة مؤقتة.

يقول ابن القيم: ” تظاهرت أدلة الشرع وقواعده على أن القصود في العقود معتبرة, وأنها تؤثر في صحة العقد وفساده وفي حله وحرمته, بل أبلغ من ذلك, وهي أنها تؤثر في الفعل الذي ليس بعقد تحليلا وتحريما فيصير حلالا تارة وحراما تارة باختلاف النية والقصد, كما يصير صحيحا تارة وفاسدا تارة باختلافها.”[7].

وكلام ابن القيم يؤيده قول جمهور الفقهاء “العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني، ولا يمكن أن تنصرف هذه القاعدة إلى صيغ الألفاظ فقط ، كأن يبيعه شيئا بلفظ هبة أو العكس.

ثانيا: انطواؤه على غش للمرأة التي جهلت نية الرجل، وربما فوت عليها فرصة الاقتران برجل آخر يرغب في نكاحها نكاحا دائما.

ثالثا: تخلف شرط رضا المرأة بالنكاح؛ لأن المرأة ربما لو علمت بنية الزوج قد لا توافق على النكاح وبذلك يتخلف شرط من شروط صحة العقد عند الكثيرين وهو رضا الزوجين بالنكاح، وإن قيل بوجود الرضا منها فهو رضاء غير معتبر؛ لأن ما رضيت به غير ما وقع عليه قصد الزوج، فالمرأة وافقت على زواج دائم مؤبد، والزوج قبل بزواج مؤقت، فاختلفا.

رابعا: اختلاف طبيعة العصر الحديث عن العصور المتقدمة حيث لم يكن قديما حدود سياسية تمنع انتقال الأفراد إلا بموجب تأشيرات دخول يتعذر في كثير من الأحيان الحصول عليها ، وحيث إن الغالب فيمن ينكح في هذه الصورة هم المغتربون فهناك تحدث كثير من المفاسد؛ إذ يحدث أن تتزوج الفتاة بمثل هذه الزيجات، ثم يتركها الزوج عائدا إلى بلاده دون طلاق، وربما معها ولد متجنس بجنسية أبيه، ولا تستطيع المرأة إثبات ذلك، ولا الحصول على الطلاق، وبمراجعة قسم الأحوال الشخصية في محاكم الدول الإسلامية نقف على كثير من مثل هذه الحالات، وحتى لو طلقها فبالنظر إلى  ما آل إليه حال المطلقات في كثير من بلاد المسلمين في اعتبارهن من الدرجة الثانية، ويصبحن عبئا اجتماعيا وأخلاقيا واقتصاديا على المجتمع الذي منع التعدد، ولو أن المرأة تعرف قصد الزوج ربما ما وافقت هي ولا أهلها على النكاح.

ولو قيل : بأن مثل هذا القول قد يدفع إلى منع الطلاق؟

يجاب: بأن هناك فرق بين وقوع الطلاق بين زوجين اتفقا على إقامة نكاح دائم ثم لم يتوافقا لأي سبب من الأسباب ، وقد يحدث الطلاق وقد لا يحدث ، وبين نكاح يعزم الزوج على الطلاق مسبقا .

خامسا: يضر هذا العمل بسمعة الإسلام في مجتمعات مخالفيه ، فيشاع عن المسلمين أنهم قوم لا  أخلاق لهم ، وفي هذا من الضرر بالدعوة ما لا يخفى على كل ذي لب ، وقد تسلم الفتاة بعد زواجها من الزوج المسلم فإذا غدر بها ووقفت على نيته بعد الطلاق ربما كان ذلك سببا في ردتها.

سادسا: لا تقوى الوجوه المذكورة لإباحة هذه الصورة على معارضة الوجوه المتقدمة، فالقول بالخوف من الوقوع في الزنا يدرؤه النكاح الدائم، ولو لم يتوافق الزوجان فعندها يملك كل واحد الحق في المفارقة، كما أن الاعتماد على صورة العقد وظاهره وأنه خال من التأقيت يدحضه ما تقرر في كلام الجمهور من اعتبار المقاصد والمعاني في العقود .

لما تقدم من أوجه فالقول بالمنع أولى وألزم، والأصل أن ينوي المسلم بنكاحه الدوام وإن طرأ بعد ذلك طارئ شرعي فليلجأ إلى التسريح بإحسان.


[1]-المنتقى شرح الموطأ – 3/335

[2]- الأم  5/86.

-[3]  البيجرمي على المنهاج  3/368

[4]- المغني 7/137

[5]- الفتاوى الكبرى 3/ 101

[6]- الإنصاف  8/163-164

[7]-إعلام الموقعين 3/88