المرجع في ضابط التخفيف في الصلاة هو السنة النبوية، وليس الأمر متروكاً لرغبات المأمومين، ولا لأهوائهم، ولا لأفعال أئمة المساجد، فإن الرغبات والأهواء لا تنتهي؛ لأن التخفيف أمر نسبي، ليس له حدٌّ في اللغة ولا في العرف، فهو أمر يختلف باختلاف عادات الناس، لذا وجب البحث عما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

يقول فضيلة الدكتور حسام عفانه –أستاذ الفقه وأصوله بجامعة القدس بفلسطين-:

قرر أهل العلم أن السنة في حق الإمام أن يخفف في الصلاة اعتماداً على حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أمَّ أحدكم الناس فليخفف، فإن فيهم الصغير والكبير والضعيف والمريض فإذا صلى وحده فليصل كيف شاء) رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن وغيرهم.

قال الإمام الترمذي: [وحديث أبي هريرة حديث حسن صحيح وهو قول أكثر أهل العلم اختاروا أن لا يطيل الإمام الصلاة مخافة المشقة على الضعيف والكبير والمريض] سنن الترمذي 1/462.

وقد وردت أحاديث كثيرة تدل على التخفيف منها: عن أبي مسعود رضي الله عنه قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني لأتخلف عن صلاة الصبح مما يطول بنا فلان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن منكم منفرين فأيكم أمَّ الناس فليخفف فإن فيهم الكبير والسقيم وذا الحاجة) رواه البخاري ومسلم.

وعن جابر رضي الله عنه قال: أقبل رجل بناضحين له – الناضح الجمل الذي يسقى عليه – وقد جنح الليل فوافق معاذ بن جبل يصلى المغرب، فترك ناضحيه وأقبل إلى معاذ ليصلي معه، فقرأ معاذ البقرة، أو النساء فانطلق الرجل، وبلغه أن معاذاً نال منه. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه معاذاً فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(أفاتن أنت، أو قال أفتان أنت ثلاث مرار. فلولا صليت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى فإنه يصلى وراءك الكبير، وذو الحاجة والضعيف) رواه البخاري.

وقصة معاذ رواها أحمد في المسند وابن خزيمة في صحيحه والبيهقي في السنن الكبرى وغيرهم وهي: (كان معاذ يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء ثم يرجع فيصلي بأصحابه، فرجع ذات ليلة فصلى بهم وصلى خلفه فتىً من قومه، فلما طال على الفتى صلى وخرج، فأخذ بخطام بعيره وانطلق. فلما صلى معاذ ذكر ذلك له فقال: إن هذا به لنفاق؛ لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي صنع. وقال الفتى: وأنا لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي صنع، فغدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره معاذ بالذي صنع الفتى. فقال الفتى: يا رسول الله يطيل المكث عندك، ثم يرجع فيطول علينا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفتان أنت يا معاذ. وقال للفتى: كيف تصنع يا ابن أخي إذا صليت؟ . قال: أقرأ بفاتحة الكتاب، وأسأل الله الجنة، وأعوذ به من النار، وإني لا أدرى ما دندنتك ودندنة معاذ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني ومعاذ حول هاتين أو نحو ذا. قال: قال الفتى: ولكن سيعلم معاذ إذا قدم القوم وقد خبروا أن العدو قد دنوا. قال: فقدموا فاستشهد الفتى. فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك لمعاذ: ما فعل خصمي وخصمك. قال: يا رسول الله صدق الله، وكذبت استشهد). وغير ذلك من الأحاديث.

وينبغي أن يعلم أن المرجع في ضابط التخفيف في الصلاة هو السنة النبوية، وليس الأمر متروكاً لرغبات المأمومين، ولا لأهوائهم، ولا لأفعال أئمة المساجد، فإن الرغبات والأهواء لا تنتهي، فقد سمعنا أن بعض أئمة المساجد يحافظ على قراءة سورتي القارعة والزلزلة في صلاة الفجر، وبعضهم صلى التروايح في رمضان كله يقرأ سورة البروج كل ليلة يقسمها على ركعاتها. وبعضهم يصلي العشاء والتروايح في ربع ساعة، لذا كثر المصلون خلفه، وبعضهم لا يقرأ في صلاة المغرب إلا بقصار السور، وبعض المأمومين يطلب من إمام التروايح أن يخفف ليدرك حضور المسلسل التلفزيوني!! وحجة هؤلاء جميعاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أمَّ أحدكم الناس فليخفف )، وما درى هؤلاء أن التخفيف قضية نسبية كما قرر ذلك العلماء.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: […ومن المعلوم أن مقدار الصلاة واجبها ومستحبها لا يرجع فيه إلى غير السنة، فإن هذا من العلم الذي لم يكله الله ورسوله إلى آراء العباد إذ النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلى بالمسلمين في كل يوم خمس صلوات وكذلك خلفاؤه الراشدون الذين أمرنا بالإقتداء بهم، فيجب البحث عما سنَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ينبغي أن يوضع فيه حكم بالرأي وإنما يكون اجتهاد الرأي فيما لم تمض به سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يجوز أن يعمد إلى شيء مضت به سنة فيرد بالرأي والقياس.

ومما يبين هذا أن التخفيف أمر نسبي إضافي ليس له حدٌّ في اللغة ولا في العرف، إذ قد يستطيل هؤلاء ما يستخفه هؤلاء ويستخف هؤلاء ما يستطيله هؤلاء، فهو أمر يختلف باختلاف عادات الناس ومقادير العبادات ولا في كل من العبادات التي ليست شرعية. فعُلِمَ أن الواجب على المسلم أن يرجع في مقدار التخفيف والتطويل إلى السنة، وبهذا يتبين أن أمره صلى الله عليه وسلم بالتخفيف لا يُنافى أمره بالتطويل أيضاً في حديث عمار الذي في الصحيح لما قال: (إن طول صلاة الرجل وقِصَرَ خُطبته مَئِـنَّـةٌ مِنْ فقهه، فأطيلوا الصلاة واقُصُرُوا الخطبة). وهناك أمرهم بالتخفيف ولا منافاة بينهما، فإن الإطالة هنا بالنسبة إلى الخطبة والتخفيف هناك بالنسبة إلى ما فعل بعض الأئمة في زمانه من قراءة البقرة في العشاء الآخرة.] مجموع الفتاوى 22/596-597.

وقال الشيخ ابن القيم: [وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (أيكم أمّ الناس فليخفف) وقول أنس رضي الله عنه: (كان رسول الله أخف الناس صلاة في تمام)، فالتخفيف أمْـرٌ نسبي يرجع إلى ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وواظب عليه، لا إلى شهوة المأمومين، فإنه لم يكن يأمرهم بأمرٍ ثم يخالفه، وقد عَلِمَ أن من ورائه الكبير والضعيف وذا الحاجة، فالذي فَعَلَه هو التخفيف الذي أَمَرَ به، فإنه كان يمكن أن تكون صلاته أطول من ذلك بأضعاف مضاعفة، فهي خفيفة بالنسبة إلى أطول منها، وهَدْيه الذي كان واظب عليه هو الحاكم على كل ما تنازع فيه المتنازعون ويدل عليه ما رواه النسائي وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالتخفيف ويؤمنا بـ (الصافات) فالقرءاة بـ (الصافات) من التخفيف الذي كان يأمر به والله أعلم] زاد المعاد (1/213-214.

وختاماً نذكر ما ذكره العلامة ابن القيم في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في الصلوات فقال: [وكان صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر بنحو ستين آية إلى مائة آية وصلاها بسورة (ق) وصلاها بـ (الروم) وصلاها بـ (إذا الشمس كورت) وصلاها بـ (إذا زلزلت) في الركعتين كليهما وصلاها بـ (المعوذتين) وكان في السفر وصلاها فافتتح بـ (سورة المؤمنين) حتى إذا بلغ ذكر موسى وهارون في الركعة الأولى أخذته سعلة فركع، وكان يصليها يوم الجمعة بـ (ألم تنزيل السجدة) وسورة (هل أتى على الإنسان) كاملتين، ولم يفعل ما يفعله كثير من الناس اليوم من قراءة بعض هذه وبعض هذه في الركعتين وقراءة السجدة وحدها في الركعتين وهو خلاف السنة.

وأما الظهر فكان يطيل قراءتها أحيانا حتى قال أبو سعيد: [ كانت صلاة الظهر تقام فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يأتي أهله فيتوضأ ويدرك النبي صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى مما يطيلها] رواه مسلم، وكان يقرأ فيها تارة بقدر (ألم تنزيل) وتارة بـ (سبح اسم ربك الأعلى) و (الليل إذا يغشى) وتارة بـ (السماء ذات البروج) و (السماء والطارق ). وأما العصر فعلى النصف من قراءة صلاة الظهر إذا طالت وبقدرها إذا قصرت.

وأما المغرب فكان هديه فيها خلاف عمل الناس اليوم فإنه صلاها مرة بـ (الأعراف) فرقها في الركعتين ومرة بـ (الطور) ومرة بـ (المرسلات). قال أبو عمر بن عبد البر: روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قرأ في المغرب بـ (المص ) وأنه قرأ فيها بـ (الصافات) وأنه قرأ فيها بـ (حم الدخان) وأنه قرأ فيها بـ (سبح اسم ربك الأعلى) وأنه قرأ فيها بـ (التين والزيتون) وأنه قرأ فيها بـ (المعوذتين) وأنه قرأ فيها بـ (المرسلات) وأنه كان يقرأ فيها بقصار المفصل، قال: وهي كلها آثار صحاح مشهورة انتهى.

وأما المداومة فيها على قراءة قصار المفصل دائماً فهو فعل مروان بن الحكم ولهذا أنكر عليه زيد بن ثابت وقال: ما لك تقرأ في المغرب بقصار المفصل؟ وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرأ بطولى الطوليين قال : قلت : وما طولى الطوليين ؟ قال: (الأعراف). وهذا حديث صحيح رواه أهل السنن.
وذكر النسائي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بسورة (الأعراف ) فرقها في الركعتين فالمحافظة فيها على الآية القصيرة والسورة من قصار المفصل خلاف السنة، وهو فعل مروان بن الحكم. وأما العشاء الآخرة فقرأ فيها صلى الله عليه وسلم بـ (التين والزيتون) ووقت لمعاذ فيها بـ (الشمس وضحاها ) و (سبح اسم ربك الأعلى ) و (الليل إذا يغشى) ونحوها وأنكر عليه قراءته فيها بـ (البقرة )… وأما الجمعة فكان يقرأ فيها بسورتي (الجمعة) و (المنافقين) كاملتين و (سورة سبح) و (الغاشية). وأما الاقتصار على قراءة أواخر السورتين من { يا أيها الذين آمنوا } إلى آخرها فلم يفعله قط وهو مخالف لهديه الذي كان يحافظ عليه. وأما قراءته في الأعياد فتارة كان يقرأ سورتي (ق ) و (اقتربت ) كاملتين، وتارة سورتي (سبح) و (الغاشية ) وهذا هو الهدي الذي استمر صلى الله عليه و سلم عليه إلى أن لقي الله عز و جل لم ينسخه شيء ] زاد المعاد في هدي خير العباد 1/209- 212.

وخلاصة الأمرأن التخفيف في الصلاة أمر نسبي ومرجعه إلى هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، فالخير كل الخير في إتباعه صلى الله عليه وسلم.