آداب العاطس ومن سمعه :

من الحكمة فيما شرعه الإسلام من أدب العطاس من حمد، وتشميت ودعاء، فيحسن بي قبل بيانها أن ألقي بعض الضوء على حقيقة ما شرعه الإسلام في ذلك وحكمه، فإن الحكم يسبق الحكمة :

1- فأول ما يشرع للعاطس أن يحمد الله تعالى . فيقول: ” الحمد لله ” أو ” الحمد لله على كل حال ” أو ” الحمد لله رب العالمين ” كما جاءت بذلك الأحاديث، وهو ما اتفق على استحبابه، كما قال النووي.

2- ومن آداب العاطس أن يخفض بالعطس صوته لئلا يزعج أعضاءه ولا يزعج جلساءه، وأن يرفعه بالحمد، ليسمع من حوله، وأن يغطي وجهه، لئلا يبدو من فيه أو أنفه ما يؤذي جليسه . فعن أبي هريرة: قال: ” كان النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا عطس وضع يده على فيه، وخفض صوته “. (أخرجه أبو داود والترمذي بسند جيد كما في الفتح، وله شاهد من حديث ابن عمر بنحوه عند الطبراني).

3- ثم يجب على من سمعه يحمد الله تعالى أن يشمته، أي يدعو له بقوله: يرحمك الله . كما في حديث عائشة عند أحمد وأبي يعلى: ” إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله، وليقل من عنده: يرحمك الله: وهذا من حق المسلم على المسلم.

والظاهر أنه فرض عين، كما أكدت ذلك عدة أحاديث، بعضها جاءت بلفظ الوجوب الصريح ” خمس تجب للمسلم ” وبعضها بلفظ الحق الدال عليه: ” حق المسلم على المسلم ست ” وبلفظ ” على ” الظاهرة فيه، وبصيغة الأمر التي هي حقيقة فيه، بقول الصحابي: أمرنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.
ولا ريب أن الفقهاء – كما قال ابن القيم – أثبتوا وجوب أشياء كثيرة بدون مجموع هذه الأشياء وبه قال جمهور أهل الظاهر، وجماعة من العلماء.
وذهب جماعة إلى أن التشميت فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، ورجحه ابن رشد وابن العربي من المالكية، وقال به الحنفية وجمهور الحنابلة.

وذهب جماعة من المالكية إلى أنه مستحب، ويجزئ الواحد عن الجماعة. وهو قول الشافعية.

والراجح من حيث الدليل القول الأول، كما قال الحافظ ابن حجر . قال: والأحاديث الدالة على الوجوب لا تنافي كونه على الكفاية، فإن الأمر بتشميت العاطس وإن ورد في عموم المكلفين، ففرض الكافية يخاطب به الجميع على الأصح، ويسقط بفعل البعض (انظر فتح الباري في شرح البخاري ج 13 ص 222، س 237 ط الحلبي).

4- ويستثننى من عموم الأمر بتشميت العاطس عدة أصناف مثل :
( أ ) من لم يحمد الله بعد عطاسه . فشرط التشميت الحمد . وقد روى البخاري عن أنس قال: عطس رجلان عن النبي – صلى الله عليه وسلم – فشمت أحدهما، ولم يشمت الآخر . فقيل له: فقال: ” هذا حمد الله، وهذا لم يحمد الله ” وهذا أمر مجمع عليه.

( ب ) المزكوم إذا تكرر منه العطاس فزاد على الثلاث . وذلك أن المزكوم قد يتكرر منه العطاس مرات كثيرة، فيشق على جليسه أن يشمته في كل مرة، وإذا لم يدع له بالدعاء المشروع للعاطس فلا بأس أن يدعو له بدعاء يلائمه، مثل الدعاء بالعافية والشفاء وما هو من هذا القبيل.

( ج ) الكافر . فعن أبي موسى الأشعري قال: كانت اليهود يتعاطسون عند النبي – صلى الله عليه وسلم – رجاء أن يقول: يرحمكم الله فكان يقول: يهديكم الله ويصلح بالكم . (أخرجه أبو داود وصححه الحاكم كما قال الحافظ).
وهذا يعني أن لهم تشميتًا مخصوصًا، وليسوا مستثنين من مطلق التشميت.

( د ) من عطس والإمام يخطب يوم الجمعة، لما ورد من منع الكلام والإمام يخطب، وإمكان تدارك التشميت بعد فراغ الخطيب.

5- ويجب على العاطس أن يرد على من شمته فدعا له بالرحمة، أن يدعو له بالهداية وصلاح البال كما جاء في حديث أبي هريرة عند البخاري وعند غيره ” إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله، وليقل له أخوه أو صاحبه: يرحمك الله . فإذا قال له: يرحمك الله فليقل: يهديكم الله ويصلح بالكم.
أو يدعو له ولنفسه بالمغفرة كم في حديث ابن مسعود: ” يغفر الله لنا ولكم “. (أخرجه البخاري في الأدب المفرد والطبراني).
وأجاز بعض العلماء الجمع بين الصيغتين . وقد أخرج في الموطأ عن نافع عن ابن عمر أنه كان إذا عطس فقيل له: يرحمك الله . قال: “يرحمنا الله وإياكم، ويغفر الله لنا ولكم “.

حكمة الحمد والتشميت عند العطاس

وإذا عرفنا أدب العطاس وأحكامه، فقد آن لنا أن نستحلي وجه الحكمة والمصلحة في ذلك، وهي في الواقع تتجلى في ثلاثة أمور :

أولا: إن اتجاه الإسلام في آدابه عامة إلى ربط المسلم بالله في كل أحيانه، وعلى كافة أحواله، وينتهز لذلك الفرص الطبيعية والمناسبات العادية التي من شأنها أن تحدث وتتكرر كل يوم مرة أو مرات، ليذكر المسلم بربه، ويصله بحبله، فيذكره تعالى مسبحًا، أو مهللاً، أو مكبرًا، أو حامدًا، أو داعيًا.
وهذا سر الأذكار والأدعية المأثورة الواردة عند ابتداء الأكل والشرب، وعند الفراغ منها، وعند النوم واليقظة، وعند الدخول والخروج، وعند ركوب الدابة ولبس الثوب، وعند السفر، والعودة منه . . . وهكذا.

فلا غرابة أن يعلم المسلم إذا عطس أن يحمد الله، وأن يقول سامعه: يرحمك الله، وأن يرد عليه: يهديكم الله . . وبهذا تشيع المعاني الربانية في جو المجتمع المسلم، شيوعها في حياة الفرد المسلم.
أما تخصيص العاطس بالحمد، فقد قال العلامة الحليمي، الحكمة فيه أن العطاس يدفع الأذى من الدماغ، الذي فيه قوة الفكر، ومنه منشأ الأعصاب التي هي معدن الحس، وبسلامته تسلم الأعضاء، فيظهر بهذا أنها نعمة جليلة، فناسب أن تُقابل بالحمد لله، لما فيه من الإقرار لله بالخلق والقدرة، وإضافة الخلق إليه لا إلى الطبائع ” ا هـ.

وأما قول السامع ” يرحمك الله، فقد أكد القاضي ابن العربي في ذلك: أن العاطس ينحل كل عضو في رأسه وما يتصل به من العنق ونحوه، فكأنه إذا قيل له: يرحمك الله، كان معناه: أعطاك الله رحمة يرجع بها بدنك إلى حاله قبل العطاس، ويقيم على حاله من غير تغيير . ا هـ.

وقال ابن أبي جمرة في شرح العطاس: وفيه إشارة إلى عظيم فضل الله على عبده فإنه أذهب عنه الضرر بنعمة العطاس . ثم شرع له الحمد الذي يثاب عليه، ثم الدعاء بالخير بعد الدعاء بالخير، وشرع هذه النعم المتواليات في زمن يسير فضلاً منه وإحسانًا إلخ. (انظر: فتح الباري ” المذكور سابقًا “).

ثانيًا: كما تحرص الآداب الإسلامية على ربط المسلم بإخوانه المسلمين.

وبعبارة أخرى: على إشاعة معاني الإخاء والمحبة والتواد بين الناس . فهي التي تجعل للحياة طعمًا، وتعين على فعل الخير، وتطرد الكآبة والتعاسة من حياة الجماعة.

أما الأنانية والفردية والحسد والبغضاء، فهي – كما سماها الرسول – داء الأمم وحالقة الدين.

ولا عجب أن جاء أدب العطاس في هذا الخط، ليقر لونًا من ألوان ” المجاملة ” الاجتماعية الطيبة، التي تنافي الجفوة والتقاطع والهجران، وتثبت معاني التواصل والمودة والرحمة . قال ابن دقيق العيد: ” ومن فوائد التشميت تحصيل المودة، والتآلف بين المسلمين، وتأديب العاطس بكسر النفس عند الكبر، والحمل على التواضع . . . ” وكلها معان إنسانية جميلة.

ثالثًا: إن الإسلام قد جاء في هذا الأدب ما أبطل اعتقادات الجاهلية التي لم تقم على أساس من عقل أو نقل، وما نشأ عن هذه الاعتقادات من عادات مستقبحة في الفطرة، ضارة بالحياة.

فقد ذكر العلامة ابن القيم أن أهل الجاهلية كانوا يتطيرون بالعطاس ويتشاءمون منه، كما يتشاءمون بالبوارح والسوانح.
قال رؤبة بن العجاج يصف فلاه: قطعتها ولا أهاب العطاس.
وقال امرؤ القيس: وقد أغتدى قبل العطاس بهيكل . ..

أراد أنه كان ينتبه لصيد قبل أن ينتبه الناس من نومهم، لئلا يسمع عاطسًا، يتشاءم بعطاسه . وكانوا إذا عطس من يحبونه قالوا له: عمرًا وشبابًا، وإذا عطس من يبغضونه قالوا له: وريًا وقحابًا “. (الورى كالرمي داء يصيب الكبد فيفسدها، والقحاب كالسعال وزنًا ومعنى).
فكان الرجل إذا سمع عطاسًا يتشاءم به، يقول: بك لا بي . أي أسال الله أن يجعل شؤم عطاسك بك لا بي . وكان تشاؤمهم بالعطسة الشديدة أشد.
فلما جاء الله سبحانه بالإسلام، وأبطل رسوله – صلى الله عليه وسلم – ما كان عليه الجاهلية من الضلالة، نهى أمته عن التشاؤم والتطير، وشرع لهم أن يجعلوا مكان الدعاء على العاطس بالمكروه الدعاء له بالرحمة.
وكما كان الدعاء على العاطس نوعًا من الظلم والبغي جعل الدعاء له بلفظ (الرحمة) المنافي للظلم، وأمر العاطس أن يدعو لمشمته بالمغفرة والهداية وإصلاح البال، فيقول: يغفر الله لنا ولكم . أو يهديكم الله ويصلح بالكم.

فأما الدعاء بالهداية، فلما أن اهتدى إلى طاعة الرسول، ورغب عما كان عليه أهل الجاهلية، فدعا له أن يثبته الله عليها، ويهديه إليها.
وكذلك الدعاء بإصلاح البال، وهي كلمة جامعة لصلاح شأنه كله . . وهي من باب الجزاء على دعائه لأخيه بالرحمة، فناسب أن يجازيه بالدعاء له بإصلاح البال.

وأما الدعاء بالمغفرة فجاء بلفظ يشمل العاطس والمشمت (يغفر الله لنا ولكم) ليستحصل من مجموع دعوتي العاطس والمشمت له المغفرة والرحمة لهما معًا. (انظر مفتاح دار السعادة: ج 2 ص 276، 277).

والله تعالى أعلم.