العبارة المأثورة عن أبى بكر ـ رضي الله عنه ـ عندما مَرِض قيل له: لو دعَوْنا لك طبيبًا، فقال: الطبيب قد نظر إليَّ وقال: إني فعَّال لما أريد. في إحياء علوم الدين “ج4 ص 346” عندما تحدَّث الإمام الغزَّالي عن العلاقة بين التداوي والتوكل على الله، وذلك بعد كلامه عن السعي في إزالة الضرر “ص343″، وقال: إن السبب الذي يقطع بأنه يُزِيل الضَّرر كالماء المُزيل للعَطش، والخبز المُزيل لضرر الجوع – ليس من التوكل ترْكه، بل تركُه حَرام عند خوْف الموت، أما السبب الذي يُظن بأنه يُزيل الضرر كالذي عند الأطباء ففِعْله ليس مُناقضًا للتوكل.

ودلَّل على أن التداوي مشروع بقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفِعْله، بل أمر به، وساق من قوله حديث: “ما مِنْ داء إلا له دواء، عَرَفَه مَنْ عَرَفَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَه إلا السَّامَّ” رواه أحمد، وزاد عليه العراقي حديث البخاري: “ما أنزل الله داءً إلا أنزل له شفاءً” وحديث مسلم: “لكل داء دواء”.

وساق الغزَّالي من فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه تَدَاوَي غير مرة من العقرب وغيرها، وذكر العراقي أن الطبراني رواه بإسناد حسن، وكان إذا نزل عليه الوحي صَدَّع رأسَه فيُغَلِّفُه بالحِنَّاء، كما رواه البزار وابن عدى في الكامل، وكان إذا خرجت به قُرحة جعل عليها الحِنَّاء كما رواه الترمذي وابن ماجة، وفي رواية البُخاري: جعل عليها التراب، وفَصَّد عرقًا لسعد بن معاذ كما رواه مسلم، وساق من الأمر به حديث “تَدَاوَوْا عباد الله فإنَّ اللَّهَ خَلَقَ الدَّاء والدواء” رواه الترمذي وصحَّحه وابن ماجة، وأمر غير واحد من الصحابة بالتداوي وبِالحِمْيَة.

ثم ذكر الغزَّالي أن هذه الأدوية أسباب مسخَّرة بحكم الله فلا يضر استعمالها مع النظر إلى مسبِّب الأسباب وهو الله، دون الطبيب والدواء. وقال في “ص246” إن الذين تداوَوْا من السلف لا ينْحصرون، ولكن جماعة من الأكابر تركوه كأبي بكر وأبي الدرداء وأبي ذر وقال: ليس في ترْكهم الدواء مخالفة لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد يكون لبعضهم انكشافٌ بأنَّ الدَّواء لا يمنع أجله، إما برؤية صادِقَة أو بحدْس وظنٍّ أو بكشف محقَّق قدْ يكون منه ما حدث لأبي بكر حيث قال لعائشة في أمر الميراث: إنما هنَّ أختاك، وكانت لها أخت واحدة ولكن كانت امرأته حاملًا فولدت أُنثى، فلا يَبْعُد مع هذا الكشف أن يكون قد كشف له أجله ولا حاجة إلى التداوي الذي شوهد الرسول يُتداوَى ويأمر به.

وقد يكون ببعض مَن لم يتداوَوْا عِلَّة مُزمنة لا يَقطع بفائدة التداوي منها، وقد يكون لبعضهم أسباب أخْرى يُمكن الرجوع إلى معرفتها في المرجع المذكور: “ص 47-48-49″، وردَّ الغزَّالي على مَن يقولون: إنَّ ترْك التداوي أفضل في كل الأحوال، بأن الرسول فعله وأمر به، وبأنه حذَّر من دخول بلد فيه الطاعون، ومن الخروج منه إذا وقع به، ونفَّذه عمر في طاعون وقع بالشام، ولما قيل له: أفرارًا من قدر الله؟ قال: أفرُّ من قدر الله إلى قدر الله. رواه البخاري مع مُراعاة أنَّ قوة الإيمان لها دخل في هذا الموضوع، وليس كل الناس سواء في ذلك، فإذا كان الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال: “فِرَّ من المجْذوم فِرَارك من الأسد” رواه البخاري، فذلك تشريع لعامة الناس، وهو الذي أكل مع المجذوم، وقال: “كُلْ بسم الله ثقةً بالله وتوكُّلًا على الله” رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وغيرهم “جمع الجوامع 628”.

من هنا نعرف أن التداوي مأمور به، كسبب من أسباب الشفاء الذي هو من الله سبحانه، ومن كانت عندهم قدرة على التداوي وقصَّروا فقد خالفوا هدْي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنَّ مَنْ أُثِرَ عنهم ترك التداوي وكان الأخذ عنهم تشريعًا قد تكون لهم أسباب مقبولة، فلا يُتخذ ما أُثِر عنْهم حُجَّة في كل الأحوال، والحديث العام معروف “قَيِّدْها وتوكَّل” رواه ابن خريمة والطبراني بإسناد جيد.