يقول الشيخ محمود شلتوت رحمه الله :

تَواضعَ المسلمون بعد عصورهم الأولَى على أن يحتفلوا في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان بليلة القدر، وليلة القدر جاء ذِكْرها في القرآن الكريم في سورة سُمِّيتْ بسورة القدر، وجاء كذلك ذكرها في أحاديث كثيرة.

وقد رغَّبت هذه الأحاديث في إحيائها ووعدت عليه بالثواب والمَغفرة. ويظنُّ كثيرٌ من الناس أن هذا الاحتفال التقليدي، الذي يُقيمونه في ليلة السابع والعشرين من رمضان، والذي قِوامه كلمة تُلقى على الحاضرين، وحلوَى تُوزَّع عليهم، يَظنُّون أنه يُحقق معنى قيامها الذي رغَّب فيه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمثل قوله: “مَن قامَ ليلةَ القدْر إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ.

والذي نعتقده أن معنى قيامها المطلوب: إسلام المُؤمن نفسه في ليلتها لله، وإخلاصه في الدعاء والتذكُّر والعبادة. ومِن المأثور في هذا الشأن قول عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: “كان إذا دخَل العشر الأواخر، أحْيَا الليلَ وأيقظَ أهْلَهُ، وشدَّ المِئْزَر”. وهو كناية عن الجِدِّ في العبادة.

أما ما تواضعنا عليه فهو تقليدٌ إلى الهزل أقرب منه إلى الجِدِّ، والحمد لله إذ طُويت صفحتُه أو كادتْ.

هذا وقد اختلف العلماء في معنى ليلة القدر، وفي حقيقتها، وفي وقتها، وفيما وقع أو يقع فيها.

اختلفوا في كل ذلك اختلافًا واسعَ المدى، وقد يكون فسيح الخيال، وحسْبك في ذلك أن تعلم أن أقوال العلماء فيها أوصلها شُرَّاح الحديث إلى سبعةٍ وأربعينَ قولًا‍، وأنه ليَعِزُّ عليَّ أن يضيعَ وقتِي ووقتُ القارئ في الاشتغال بنقل هذه الأقوال أو قراءتها. والذي نطمئن إليه، ونُحبُّ أن نقدمه للأخ المسلم في هذه الكلمة هو: أن ليلة القدر هي التي فيها بُدئ بإنزال القرآن، وهو ما تُصرِّح به سورة القدر: (إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي ليلةِ القَدْرِ). (أول سورة القدر).

وكان ذلك حين نزل قوله ـ تعالى ـ: (اقْرَأْ باسمِ رَبِّكَ الذي خَلَقَ خَلَقَ الإنسانَ مِن عَلَقٍ). (سورة العلق) وأن هذه الليلة كانت مِن ليالي شهر رمضان، لقوله ـ تعالى ـ في سورة البقرة: (شَهْرُ رمضانَ الذي أُنْزِلَ فيهِ القُرآنُ هُدًى للناسِ وبَيِّنَاتٍ مِن الهُدَى والفُرْقَانِ). (الآية: 185 من سورة البقرة). وأنها الليلة التي وصَفها الله بأنها مُباركة في قوله في أول سورة الدخان: (حم. والكتابِ المُبِينِ. إنَّا أَنْزَلْنَاهُ في ليلةٍ مُباركةٍ إنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ). (أول سورة الدخان).

وإذنْ فيه ليلة تاريخية، نَذكُر بها كلما جاءت شهرَها، بل نَذكرها بشهرِها، ونذكر بها نعمة الله على الناس كافَّة بهذا القرآن الكريم، وأن معنى “القدْر” الشرَف والعَظمة، فهي ليلة اكتسبتْ ذلك بما أُنزل فيها، وإنَّ ليلةً ينزل فيها القرآن ويتجلَّى فيها ربُّ العِزَّة والجلال على الناس ـ فيبعث إليهم الهُدى مِن السماء، يرشد ضالُّهم، ويعلم جاهلهم، ويُنظم شُؤونهم، ويرسم لهم طرق المجد، ويَفُكُّ عنهم إصْرَهُمْ وأغلالهم ـ إن ليلةً هذا شأنُها، لجديرة بالتفخيم والتعظيم وجديرة بإحيائها، وبَذْلِ الجهود في شُكر الله على آثارها .

وقد صوَّر اللهُ لنا عظمتها بهذا الاستفهام الدالِّ على جلالها (ومَا أدْرَاكَ مَا لَيْلةُ القَدْرِ). وبتكرار كلمة “القدْر” ثلاث مرات تكرارًا يملأ النفس رَوْعَةً (إنَّا أَنْزَلْنَاهُ في ليلةِ القَدْرِ ومَا أدراكَ ما ليلةُ القَدْرِ). وبهذا التفضيل الذي لم يستعمل أسلوبه في فضْل شيءٍ غيرها (خَيْرٌ مِن ألْفِ شَهْرٍ). ألف شهر رمز للكثْرة التي لا يأْلَفها المُخاطبون، فتذهب نُفوسهم في حقيقتها كل مذهب مُمكن.

لم يقف القرآن في تصوير عظمتها عند هذا الحد، بل راح يذكر شيئًا غيْبِيًّا يتصل بنُزول الملائكة وبينهم الروح الأمين “حفاوة السماء بالأرض” واطمئنان الأرواح الخيِّرة على أن شمس الهداية التي ترجوها لبنِي الإنسان، قد آذنت بإشراق، وأن الخير والإصلاح سيَعُمَّانِ كل الآفاق، وأن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد مدَّ يده برسالةٍ مِن ربِّه إلى الإنسانية جميعها؛ ليُخرجها مِن الظلمات إلى النور، ويَرُدُّها إلى فِطْرتها الخيِّرة، ويُرْشدها إلى صراط الله المستقيم، تلك ليلة القدر، وهذا طريق إحيائها .