لا شك أن معرفة تاريخ نزول السور والآيات لها فائدتها العظيمة في التشريع، من أهمها معرفة الناسخ والمنسوخ، حينما يكون هناك نصَّانِ مختلفان في الحكم، ولا يمكن التوفيق بينهما بمثل التقييد والتخصيص، وكذلك معرفة تدرُّج التشريع، وبيان اهتمام المسلمين بالقرآن والبحث عن تواريخ نزول الآيات والسور.
وأصحُّ ما قيل في أول ما نزل من القرآن أنه صدر سورة: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) في غار حراء، كما رواه البخاري ومسلم عن عائشة في حديث أول ما بُدِيء به الرسول من الوحْي، وقيل: إن أول ما نزل إطلاقًا: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ)، وذلك لحديث رواه البخاري ومسلم أيضًا عن جابر بن عبد الله، ولكن رُدَّ عليه بأن ذلك أول ما نزل بعد فترة الوحي. للنصِّ عليه في رواية أخرى التي جاء فيها، “فإذا المَلَكُ الذي جاءني بحِراء قاعد على كُرسِيٍّ بين السماء والأرض فرجعت إلى بيتي وقلت زمِّلوني، فأنزل الله: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ)، وقيل: إن أول ما نزل هو سورة الفاتحة، بِناءً على حديث روه البيهقي. ورُدَّ بأنه حديث مُرسَل سقط منه الصحابي فلا يقْوى على معارضة حديث عائشة السابق، وقيل: إن أول ما نزل هو البسملة (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) بِناءً على حديث أخرجه الواحدي عن عِكرمة والحسن، ورُدَّ بأنه حديث مُرسَل كسابقه، فهذه أربعة أقوال أصحها وأقواها الأول، أما آخر ما نزل من القرآن ففيه عشرة أقوال:
1- قوله تعالى: ( وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) (سورة البقرة:281) بناءً على حديث رواه النسائي عن ابن عباس، حيث عاش النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد نزولها تسع ليال ثم تُوفي لليلتين خلتا من ربيع الأول.
2- قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (سورة البقرة:278) بناء على رواية للبخاري عن ابن عباس.
3- قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى فَاكْتُبُوهُ) (سورة البقرة: 282).
وجمع السيوطي بين هذه الأقوال بأن الظاهر نزولها دفعة واحدة كترتيبها في المصحف؛ لأنها في قصة واحدة. لكن الرأي الأوَّل أقْوي لِمَا في الآية من إشارة إلي ختام الدِّين ووجوب الاستعداد ليوم القيامة، وللنص في الحديث على وفاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد نزولها بتسع ليال فقط.
4- قوله تعالى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ) (سورة آل عمران:195)، والدليل حديث أخرجه ابن مِرْدَوَيِه عن أم سلمة أنها قالت للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أرى الله يَذْكُر الرجال ولا يذكر النساء فنزلت: ( وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ ) (سورة النساء:32)، ونزلت: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ) (سورة الأحزاب:35)، ونزلت آية: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ)، فهي آخر ما نزل من الآيات الثلاث. وليستْ آخر ما نزل من القرآن.
5- قوله تعالى: ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ) (سورة النساء:93) والدَّليل ما أخرجه البخاري وغيره عن ابن عباس حيث قال: هي آخر ما نزل ولم يَنْسَخْها شيء، ويُجاب على ذلك بأنها آخر ما نزل في حُكم قتل المؤمن عمدًا، وليست آخر ما نزل من القرآن.
6- قوله تعالى: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ) (سورة النساء:176)، والدليل ما رواه البخاري ومسلم عن البرَّاء بن عازب، ورُدَّ بأنها آخر ما نزل في المواريث، كما قال عن سورة براءة بأنها آخر ما نزلت، فيُحمل القول على أن ذلك بالنسبة لتشريع الجهاد والقتال، فالآخرية نسبية إضافية لا حقيقية مطلقة.
7- سورة المائدة، بناء على رواية للترمذي والحاكم عن عائشة، ورُد بأنها آخر سورة نزلت في الحلال والحرام فلم تُنسخْ فيها أحكام، فالآخرية مُقيدة بذلك وليست مطلقة.
8- قوله تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفِسِكُمْ) (سورة التوبة:128) بِنَاءً على ما رواه الحاكم وابن مِرْدَوَيْه عن أُبَيِّ بن كعب، ويُرَد عليه بأن الآخرية معناها أنها آخر آية نزلت من سورة براءة ويؤيِّده ما قيل: إن هذه الآية وما بعدها نزلت بمكة مع أن السورة مدنية، فالسورة تحدثت عن الجهاد، والآيتان ليس فيهما أمر به؛ لأن الجهاد لم يُفرض بمكة.
9- آخر سورة الكهف: ( فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ) بناءً على ما أخرجه ابن جرير عن معاوية بن أبي سفيان، ويُرد عليه بأن الآخرية بحسب عدم نزول ما ينسخُها بعدها.
10- (إِذَا جَاءَ نَصْر اللهِ وَالْفَتْح) لما رواه مسلم عن ابن عباس، ورُد بأنها آخر ما نزل مُشْعِرًا بوفاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويؤيِّده ما رُوي عنه أنه قال حين نزلت: “نُعِيَتْ إليَّ نَفْسي”، وفَهِمَ ذلك بعض كبار الصحابة، فقد ورد أن عمر بكى عند سماعها وقال: الكمال دليل الزوال. ويُحتمل أنها آخر ما نزل من السور فقط، كما تدل عليه رواية ابن عباس.
هذا ما تم تلخيصه من الإتقان في علوم القرآن للسيوطي. ومن مناهل العرفان للزُّرقاني، ومن أراد الزيادة فليرجع إليهما.