الواقع أن وصف النقاب بأنه بدعة دخيلة، وأنه ليس من الدين ولا من الإسلام في شيء، وأنه إنما دخل على المسلمين في عصور الانحطاط الشديد، الواقع أن هذا الوصف غير علمي، وغير موضوعي، وهو تبسيط مخل بجوهر القضية، ومضلل عن تبين الموضوع على حقيقته.
فمما لا يماري فيه أحد يعرف مصادر العلم وأقوال العلماء أن القضية خلافية، أي قضية جواز كشف الوجه أو وجوب تغطيته ومعه الكفان أيضًا.
وقد اختلف فيها العلماء من فقهاء ومفسرين ومحدثين قديمًا، ولا يزالون مختلفين إلى اليوم.
وسبب الاختلاف يرجع إلى موقفهم من النصوص الواردة في الموضوع ومدى فهمهم لها، حيث لم يرد فيه نص قطعي الثبوت والدلالة، ولو وجد لحسم الأمر.
فهم مختلفون في تفسير قوله تعالى: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها). (النور: 31).
فرووا عن ابن مسعود أنه قال: (إلا ما ظهر منها): الثياب والجلباب.. أي الثياب الخارجة التي لا يمكن إخفاؤها.
ورووا عن ابن عباس أنه فسر (ما ظهر منها) بالكحل والخاتم.
وروي مثله عن أنس بن مالك.
وقريب منه عن عائشة.
وأحيانا يضيف ابن عباس إلى الكحل والخاتم: خضاب الكف، أو المَسَـكة أي السوار أو القرط والقلادة.
وقد يعبر عن الزينة بموضعها.. فيقول ابن عباس: رقعة الوجه وباطن الكف.. وجاء ذلك عن سعيد بن جبير وعطاء وغيرهما.
وبعضهم جعل بعض الذراع مما ظهر منها.
وفسر ابن عطية ما ظهر منها: أنه ما انكشف لضرورة، كأن كشفته الريح أو نحو ذلك. (انظر: تفسير الآية عند ابن جرير وابن كثير والقرطبي، والدر المنثور 5/41، 42 وغيرها).
وهم مختلفون في تفسير قوله تعالى: (يأيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعـرفن فلا يؤذين وكان الله غفـورًا رحيمًا). (الأحزاب: 59).
ما المراد بإدناء الجلابيب في الآية الكريمة ؟.
فرووا عن ابن عباس نقيض ما روي عنه في تفسير الآية الأولى!!.
ورووا عن بعض التابعين عبيدة السلماني أنه فسر الإدناء تفسيرًا عمليًا بأن غطى وجهه ورأسه، وأبرز عينه اليسرى !! ومثله عن محمد بن كعب القرظي.
وخالفهما عكرمة مولى ابن عباس: فقال: تغطي ثغرة نحرها بجلبابها، تدنيه عليها.. وقال سعيد بن جبير: لا يحل لمسلمة أن يراها غريب إلا أن يكون عليها القناع فوق الخمار وقد شدت به رأسها ونحرها. (انظر: الدر المنثور 5/221، 222 والمصادر السابقة في تفسير الآية).
ونرجح أن الوجه والكفين ليسا بعورة، ولا يجب على المسلمة تغطيتهما، ونرى أن أدلة هذا الرأي قوية.
وعلى هذا الرأي كثير من علماء هذا العصر ..مثل الشيخ ناصر الدين الألباني في كتابه ” حجاب المرأة المسلمة في الكتاب والسنة ” وجمهور علماء الأزهر في مصر، وعلماء الزيتونة في تونس، والقرويين في المغرب، وغير قليل من علماء باكستان والهند وتركيا وغيرها.
ولكن ادعاء إجماع علماء العصر على هذا ليس صحيحًا، فمن العلماء في مصر من يعارض هذا القول.
وعلماء السعودية وعدد من بلاد الخليج يعارضون هذا الرأي، وعلى رأسهم العالم الكبير الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى.
وكذلك كثير من علماء باكستان والهند، يخالفونه، ويرون أن على المرأة أن تغطي وجهها.
ومن أشهر الذين قالوا بذلك من كبار علماء باكستان ودعاتها: المجدد الإسلامي المعروف الأستاذ أبو الأعلى المودودي في كتابه الشهير: ” الحجاب“.
ومن المعاصرين الأحياء المنادين بوجوب تغطية الوجه الكاتب الإسلامي السوري المعروف الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي رحمه الله تعالى، الذي أصدر في ذلك رسالة “إلي كل فتاة تؤمن بالله”.
وهناك رسائل وفتاوى تظهر بين الحين والحين، تندد بكشف الوجه، وتنادي الفتيات باسم الدين والإيمان، أن يلتزمن النقاب، ولا يخضعن للعلماء ” العصريين ” الذين يريدون أن يطوعوا الدين للعصر.
فإذا وجد من بنات المسلمين من تقتنع بهذا الرأي، وترى أن كشف الوجه حرام، وأن تغطيته فريضة.. فكيف نفرض عليها الرأي الآخر، الذي تراه هي خطأ، ومخالفًا للنص ؟.
إنما ننكر عليها حقًّا إذا رأت أن تفرض هي رأيها على الآخرين أو الأخريات، وأن تحكم بالإثم أو الفسق على من عمل بالرأي الآخر، وتعتبر هذا منكرًا يجب محاربته، مع اتفاق المحققين من العلماء على أن لا إنكار في المسائل الاجتهادية الخلافية.
ولو أنكرنا عليها نحن العمل بالرأي الذي يخالف رأينا وهو رأي معتبر داخل نطاق الفقه الإسلامي الرحب لوقعنا نحن في المحظور، الذي نقاومه وندعو إلى التحرر منه، وهو إلغاء الرأي الآخر، وعدم إعطائه حق الحياة، لمجرد أنه يخالفنا، أو نخالفه.
بل لو فرض أن هذه المسلمة لا ترى وجوب التغطية للوجه، وإنما تراه أورع وأتقى خروجًا من الخلاف، وعملاً بالأحوط فقط.. فمن ذا الذي يمنعها من أن تأخذ بالأحوط لنفسها ودينها ؟ وكيف يسوغ أن تلام على ذلك ما دام هذا لا يؤذي أحدًا، ولا يضر بمصلحة عامة ولا خاصة ؟.

فلم يقل أحد من علماء المسلمين في القديم أو الحديث بتحريم لبس النقاب على المرأة بصفة عامة، إلا ما جاء في حالة الإحرام فحسب.
إنما اختلفوا فيه بين القول بالوجوب والقول بالاستحباب، والقول بالجواز.
أما التحريم، فلا يتصور أن يقول به فقيه، بل ولا الكراهية.. ونعجبت كل العجب ممن يقول بتغطية الوجه تحريم لما أحل الله، وهو قول من ليس له في الكتاب والسنة أو الفقه وأصوله قدم راسخة!.

وكيف ننكر على المسلمة المتدينة أن تلبس النقاب على أن من النساء من تلبس الثياب القصيرة والشفافة والمجسمة للمفاتن، وتضع من (ألوان المكياج) ما تضع، ولا ينكر عليهن أحد، باعتبار أن هذا من الحرية الشخصية ! مع أن هذا اللباس الذي يشف أو يصف، أو لا يغطي ما عدا الوجه واليدين من الجسم، محرم شرعًا بإجماع المسلمين ؟ !.

فيا عجبا كيف تترك الحرية للكاسيات العاريات، المميلات المائلات، ولا يتعرض لهن أحـد ببنت شفة، كما يقولون، ثم يصب جام السخط كله، واللـوم كله، على ربات النقاب، اللائي يعتقدن أن ذلك من الدين الذي لا يجوز التفريط أو التساهل فيه ؟!!.
فلله الأمر من قبل ومن بعد، ولا حول ولا قوة إلا بالله!!.