عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ الزَّمَنَ الطَّوِيلَ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ، ثُمَّ يُخْتَمُ له عَمَلُهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ الزَّمَنَ الطَّوِيلَ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، ثُمَّ يُخْتَمُ له عَمَلُهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ” رواه مسلم.

هذا الحديث لا يخالف ما في القرآن من إثبات الأسباب ، واختيار الإنسان ومطالبته بالعمل ، ولا يثبت عقيدة الجبر ، ولا يشير إلى اتصاف البارئ تبارك وتعالى بالظلم ؛ لأنه لا يفيد معنى التحتيم والجبر ، بل كل ما يفيده هو أن كل ما يعمله الإنسان ثابت في العلم الإلهي على ما يكون عليه في الواقع ، والواقع أن سعادة الإنسان أو شقاءه بعمله الاختياري .

يقول فضيلة الشيخ محمد رشيد رضا-رحمه الله-:

فليس في الكتابة الإلهية لما يكون عليه الإنسان في مستقبل أمره شيء من معنى الجبر والإكراه الذي يتبادر إلى الفهم ، وإنما هي عبارة عن ضبط الأمر الذي يجري بقدر ونظام ، ومثاله من أعمال البشر ( ولله المثل الأعلى ) سير القطارات الحديدية بنظامها المعروف ، وسير البريد في البر والبحر، يكتب لهذا وذاك نشرات يذكر فيها الأيام والساعات والدقائق التي يسير فيها البريد، والتي يصل فيها إلى بلد كذا وبلد كذا ، وليس في هذه الكتابة ما يجعل سير القطارات والمراكب وحركات عمالها خارجة عن نظام الأسباب والمسببات، في خواص النار والماء والبخار ، ولا ما ينافي اختيار العمال الذين يتولون الأعمال في هذه القطارات والمراكب ، ونقل البريد منها في أعمالهم .

إن الكتابة عبارة عن ضبط العلم بالشيء ، والعلم نفسه لا يتعلق بالأشياء تعلق إيجاد وتكوين ، وإنما يتعلق بها تعلق انكشاف وإحاطة ، فلا إجبار ولا تحتيم ، وإنما يكتب الشيء على ما يكون عليه ، ونحن نعرف بالضرورة من أنفسنا ؛ أن ما نحن عليه هو أننا مختارون في أعمالنا الصالحة وغير الصالحة ، وهي أسباب السعادة والشقاوة .

وكونها مكتوبة لا يمنع هذا ، كما أن كتابة سير القطارات والمراكب من أول الشهر مثلاً لا يقتضي أن يكون سيرها بغير الأسباب ، بل هو بالأسباب ، ومن العلماء من ينظم هذه الكتابة في سلك التمثيل بكون علم الله بالأشياء ثابتًا لا يتغير [ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى ]( طه : 52 ) .

ومن الفرق بين كتابة الناس والكتابة الإلهية ؛ أن الناس يعلمون بما أوتوا من العلم بالأسباب ؛ أن قوة البخار إذا كانت كذا ، فإن القطار أو المركب يسير في الساعة كذا ميلاً ، وأن المسافة بين مصر والإسكندرية كذا ميلاً ، وبين الإسكندرية والآستانة كذا ميلاً ، وأن السير يكون في ساعة كذا ، فيكون الوصول في ساعة كذا ، ولكنهم لا يعلمون ما عساه يطرأ من الأسباب التي تحول دون ذلك ، فيترتب عليها الإخلال بهذا النظام ، كما يقع ونشاهده ونسمع به ؛ من تعطل آلة أو حدوث رياح أو سيول تجرف بعض الخطوط الحديدية .

والله سبحانه يعلم جميع ما يطرأ على عبده مما يجري في سلسلة الأسباب الظاهرة للعبد ، والأسباب الخفية عنه ، ولا يخفى على الله شيء .

وما ذكر في آخر الحديث من أدق العلم بالله وسنته ؛ لأنها مخالفة بحسب الظاهر لسنة الله تعالى في كون المرء يموت على ما عاش عليه ؛ لأن الأعمال تؤثر بالتكرار في النفس ، فتطبعها على الحق والخير أو على ضدهما ، فكيف يمكن إذًا أن يعمل الإنسان بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع فيعمل بعمل أهل النار ، والعكس .

الجواب عن هذا لا يفهمه حق الفهم إلا خواص الخواص على دقائق المعاني ، ويمكن تقريبه إلى أذهان الجمهور بالمثال .

فمثل الذي يعمل بعمل أهل الجنة حتى يقرب بتزكية نفسه وتهذيبها منها ، فيترك العمل لها ، وينغمس في الباطل والشر الذي هو عمل أهل النار ؛ كمثل رجل ضعيف البنية مستعد للأمراض القاتلة ، جرى على قواعد حفظ الصحة في طعامه وشرابه وعمله ورياضته ، حتى لم يبق بينه وبين المتمتعين بكمال القوة والصحة إلا فرق قليل ، فاغتر بنفسه وأسرف في أمر صحته بالتعرض لمرض قاتل كالسل أو الطاعون فهلك .

ومثل الذي يعمل بعمل أهل النار من اقتحام الباطل واقتراف أعمال الشر ، حتى تكاد تحيط به خطيئته، وتصير الأباطيل والشرور ملكة حاكمة عليه ، فيترك كل ذلك فجأة وينقلب إلى ضده ؛ كمثل رجل قوي البنية كامل الصحة غرته قوته ، فأقبل على ما يفسد الصحة كشرب المسكرات والإسراف في الشهوات ، حتى إذا ساء هضمه وضعفت قواه وكاد يكون حرضًا أو يكون من الهالكين ، تنبه من غفلته وثاب إلى رشده ، فجرى على قوانين الصحة بغاية العناية والدقة ، فنجا مما كاد يبسله ويهلكه .

كل من هذا وذاك مما يقع قليلاً ، والأكثر أن من يطول عليه العهد في مزوالة الأعمال النافعة أو الضارة لا يعود عنها ، والأعمال البدنية كالأعمال الروحية وسنن الله تعالى فيهما متشابهة .

فتبين بهذا أن الحديث لا يخالف ما في القرآن من إثبات الأسباب ، واختيار الإنسان ومطالبته بالعمل ، ولا يثبت عقيدة الجبر ، ولا يشير إلى اتصاف البارئ تبارك وتعالى بالظلم ؛ لأنه لا يفيد معنى التحتيم والجبر ، بل كل ما يفيده هو أن كل ما يعمله الإنسان ثابت في العلم الإلهي على ما يكون عليه في الواقع ، والواقع أن سعادة الإنسان أو شقاءه بعمله الاختياري .

ولو علمت أنا أن الأمير يسافر في يوم كذا من القاهرة في ساعة كذا ، فيصل إلى الإسكندرية في وقت كذا ، ثم يسافر منها في ساعة كذا من يوم كذا إلى الآستانة ، فيصل إليها يوم كذا إلى آخر ما يمكن أن أقف عليه من حاشية الأمير مثلاً، لو علمت هذا وكتبته في دفتر عندي ، فهل يقتضي ذلك أن يكون ذلك السفر بإجبار مني ؛ لأنني علمت به ، وأن يكون الأمير غير مختار فيه ؟ لا لا ، فإن تعلُّق العلم والكتابة ليس تعلُّق إلزام ولا إيجاد .

ثم إن الحديث لا يناقض حديث : ( كل مولود يولد على الفطرة ) سواء كان المراد بالفطرة الخير أو الاستعداد المطلق ؛ لأنه إنما يدل على علم البارئ تعالى بما يطرأ على الفطرة السليمة من التربية الحسنة والقدوة الصالحة ، التي تسوقها إلى الارتقاء في الحق والخير ، فيكون صاحبها تام السعادة ، أو من التربية السيئة وقدوة الشر التي تفسدها وتجعل صاحبها شقيًّا .

فإذا بنت شركة عدة بيوت بناء حسنًا محكمًا مزينًا ، وقالت : إنني شددت كل بيت من هذه البيوت وأحكمت بناءه وزينته ، وكانت تعلم أن الذين يقيمون فيها فريقان : فريق يزيدون بيوتهم حسنًا وزينة ، وفريق يصدعون بناءها ويشوهون زينتها ، وقالت في مقام آخر: إن هذه البيوت سيكون بعضها حسنًا جميلاً وبعضها مشوهًا قبيحًا ، فهل يكون القولان متناقضين ؟ لا لا .