يقول الله تعالى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الذِينَ كَفَرُوا) (سورة النساء:101)، والخوف من الفتنة ليس شرط لقَصْر الصلاة كما ثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فهو صدقة تصدَّق الله بها علينا فلنقبل صدقته.
والسفر المُبيح للقصر اختلف في تقديره العلماء، يقول القرطبي في تفسيره “ج5ص353” قال داود: تُقصر الصلاة في كل سفر طويل أو قصير ولو كان ثلاثة أميال، متمسِّكًا بحديث رواه مسلم عن أنس كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ ـ شك من أحد رواة الحديث واسمه ـ شعبة ـ صلي ركعتين. يقول القرطبي: وهذا لا حجة فيه؛ لأنه مشكوك فيه، أي في المسافة التي رواها شعبة، وعلى تقدير أحدهما فلعله حد المسافة التي بدأ منها السفر، وكان سفرًا طويلاً زائدًا على ذلك، ولم يذكر حدَّ السفر الذي يقع به القصر لا في القرآن ولا في السنة، وإنما كان كذلك؛ لأنها لفظة عربية مستَقِر عملها عند العرب الذين خاطبهم الله تعالى بالقرآن، فنحن نعلم قطعًا أن من برز عن الدور لبعض الأمور أنه لا يكون مسافرًا لغة ولا شرعًا، وإن مشى ثلاثة أيام فإنه مسافر قطعًا، كما أنا نحكم على أن مَن مشى يومًا وليلة كان مسافرًا، لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ “لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم منها”، وهذا هو الصحيح؛ لأنه وسط بين الحالين، وعليه عوَّل مالك، ولكنه لم يجد هذا الحديث متَّفقًا عليه، وروى مرة: “يوم وليلة”، ومرة: “ثلاثة أيام”، فجاء إلى عبد الله بن عمر فعوَّل علي فعله، فإنه كان يقصر الصلاة إلى “رئم” ـ وادٍ بالمدينة ـ وهي أربعة برد: لأن ابن عمر كان كثير الاقتداء بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال غيره: وكافة العلماء على أن القصر إنما شرع تخفيفًا، والتخفيف إنما يكون في السفر الطويل الذي تَلحق به المشقة غالبًا، فراعى مالك والشافعي وأصحابهما والليث والأوزاعي وفقهاء أصحاب الحديث أحمد وإسحاق وغيرهما يومًا تامًّا، وقول مالك يومًا وليلة راجِعٌ إلى اليوم التام؛ لأنه لم يُرِدْ بقوله: “مسيرة يوم وليلة” أن يسير النهار كله والليل كله، وإنما أراد أن يسير سيرًا يبيت فيه بعيدًا عن أهله ولا يمكنه الرجوع إليهم. وفي البخاري: وكان ابن عمر وابن عباس يُفطران ويقصران في أربعة برد، وهي ستة عشر فرسخًا، وهذا مذهب مالك، وقال الشافعي والطبري: ستة وأربعون ميلاً، وعن مالك روايتان، خمسة وأربعون ميلاً، وستة وثلاثون ميلاً.
وبعد كلام طويل في تقدير المسافة قال أبو عمر: اضطربت الآثار المرفوعة في هذا الباب كما ترى في ألفاظها، ومجملها عندي ـ والله أعلم ـ أنها خرجت على أجوبة السائلين، فحدَّث كل واحد بمعنى ما سمع ـ وذلك في حديث سفر المرأة بغير محرم.
هذا ما نقلناه من تفسير القرطبي باختصار وتصرف، وذكر ابن قدامه في ” المغني” ج2ص92 روايات عن جماعة من السلف أن القصر يجوز في أقل من هذه المسافة، لكنها روايات مردودة عليها.
وجاء في فقه المذاهب الأربعة أن المسافة التي تُقصر فيها الصلاة في السفر هي ستة عشر فرسخًا ذَهابا فقط والفرسخ ثلاث أميال، والميل ستة آلاف ذراع بذراع اليد، وهذه المسافة تساوى ثمانين كيلو ونصف كليلو ومائة وأربعين مترًا ـ مسيرة يوم وليلة بسير الإبل المحمَّلة بالأثقال سيرًا معتادًا ـ ولا يضر نقصان المسافة عن المقدار المبيَّن بشيء قليل، كميل أو ميلين.
وأبو حنيفة لم يقدِّر المسافة بهذه المقاييس، بل قدَّرها بالزمن وهو ثلاثة أيام من أقصر أيام السنة يكفى أن يسافر في كل يوم منها من الصباح إلى الزوال، والمعتبَر السير الوسط.

والمالكية قالوا: إن نقصت المسافة عن القدر المبيَّن بثمانية أميال وقصر الصلاة صحت صلاته ولا إعادة عليه على المشهور. ويُستثني من اشتراط المسافة أهل مكة ومني ومزدلفة والمحصب إذا خرجوا في موسم الحج للوقوف بعرفة فإنه يُسن لهم القصر في حال ذهابهم. وكذلك في حال إيابهم إذا بقى عليهم عمل من أعمال الحج التي تؤدَّى في غير وطنهم، وإلا أتموا.
ثم قال العلماء: لا يُشترط قطع المسافة المذكورة في المدة المذكورة والمقدرة بالأيام، فلو قطعها في أقل منها ولو في لحظة صح القصر ـ كما هو الشأن في السفر بالطائرات والقطارات والسيارات.
يؤخذ من هذا أن الرأي المتفق عليه بين الأئمة الأربعة أن يكون السفر طويلاً، لا يقل عن ثمانين كيلو مترا تقريبًا. هذا وقد ذكر ابن قدامه في “المغني ” ج2 ص96 أنه حكى عن عطاء وسليمان بن موسى أنهما أباحا القصر في البلد لمَن نوى السفر وكذلك حكى عن غيرهما ولا يوجد دليل صحيح لذلك. ( يضاف كلام ابن قدامه إلى ص 537 من المجلد الثاني).