صحَّ في البخاري أن النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر نَجّارًا أن يَعمل له مِنبرًا يجلس عليه إذا خطب، فلما عمل من طرفاءِ الغابة، يقول سهل بن سعد الساعدي:رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلّى عليها وكبّر هو عليها ثم ركَع وهو عليها ثم نزل القَهْقَرَى فسَجَد في أصل المِنبر ثم عاد، فلما فرَغ أقبل على الناس فقال: أيها النّاس، إنما صنعت هذا لتأتَمُّوا ولتَعلَموا صلاتي “ج 2 ص 12”.

لقد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخطُب الناسَ بجوار جِذع من النَّخل يستنِد إليه، ولما كان طول الوقوف شاقًّا عليه أمر بِصنع المِنبر، وكان ثلاث درجات، إلى أن زادَ فيه مَروان ستَّ دَرجاتٍ، وجُدِّد أكثر من مرة بعد احتراق المسجد، وكان لأمراء مصر فضل كبير في تجديد المنابر، واستمرّ الناس يخطُبون على هذه المنابر بدرجاتِها التِّسع دون أن يُنكِر عليهم أحد، وحاول الخليفة العباسي سنة 160 هـ أن يعيد المنبرَ كما كان على عهد الرسول ـ صلَّى الله عليه وسلم ـ فنصحَه الإمام مالك بعدم التغيير فيه، ولو كانت المنابِرُ الجديدة بِدعة وضلالة، ما كان للإمام مالِكٍ أن يُقرَّها ويَنهَى الخليفة عن تغييرها.

لقد اتخذ الرسول المنبر من أجل المصلحة، ولم يكتفِ بالخطبة عليه. بل استعمله للصلاة ليكون بارزًا وظاهرًا لمن يصلُّون خلفَه، وقال المؤرِّخون: إن الزيادة في درجاته كانت بسبب كثرة الناس وحاجتهم إلى سَماع الخُطبة، حيث كان يستعان على ذلك بارتفاع مكان الخطيب، ومن هنا نعلم أن كل ما يؤدِّي إلى خير عام، ولا يُصادِم نَصًّا صريحًا ولا حكمًا مقرّرًا، لا ينبغي أن نُبادِر بالإنكار عليه ووصفه ببدعة الضّلالة المؤدِّية إلى النّار، وهل كان المسلمون طِوال هذه القرون على جهل بدينهم ، وفيهم أئمة كبار حين أقرُّوا ارتفاع المنابر فوق ما كان عليه المنبر النبويّ؟

إن درجات المنبر لم يَرِدْ في تحديدها قول من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى نُلزَم به ونعصي عند مخالفته، فالأمر يدور على المصلحة، وإذا وُجِدَت المصلحة، فثَمَّ شرع الله كما. قال المحقِّقون. إن درجات المنابر في أيّامنا الحاضرة تَساوَى قليلُها بكَثيرِها، لوجود مكبِّرات الصوت التي وفَّرت على الخطيب كثيرًا من الجهد، ومكّنت من الاستماع إلى الخطبة أكبرَ عدد من المسلمين، فهل نحكم على هذه المكبرات بأنها بِدعة وضلالة في النار، وهي تؤدِّي الغرض الذي من أجله أمر رسول الله أن يُقام له المنبر؟ إن الدِّين يحتاج إلى من يفهَمه على وجهه الصحيح، وليست العِبرة بالمنابر ودرجاتها الصامتة إنما العبرة بما يُلقى من فوقها من علم يجب أن يرقَى عشرات الدرجات في الصدق والإجادة والإتقان.