في ذلك خلاف بين أهل العلم ، وجمهور العلماء على أنهم لا يأخذون من الزكاة.

جاء في كتاب فقه الزكاة للشيخ يوسف القرضاوي:

أجمع المسلمون على أن الكافر المحارب لأهل الإسلام لا يعطى من الزكاة شيئًا (نقل هذا الإجماع في البحر الزخار: 2/185 ) وسند هذا الإجماع قوله تعالى: (إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون) (الممتحنة: 9).

ولأنه حرب على الإسلام وأهله، عدو للحق وحزبه، وكل معونة تتحول إلى خنجر يطعن به الدين، أو يقتل به المؤمنين، وليس من الدين ولا من العقل أن يعطى الناس من أموالهم لقتل أنفسهم أو الاعتداء على مقدساتهم.

ومثله الملحد الذي ينكر وجود الله، ويجحد النبوة والآخرة. فهذا بطبيعته حرب على الدين، فلا يعطى من أموال أهل الدين.

وكذلك المرتد المارق من الإسلام بعد ما دخل فيه؛ لأنه في نظر الإسلام لا يستحق الحياة، وقد اقترف جريمة الخيانة العظمى بارتداده عن الدين؛ ومفارقته لجماعة المسلمين. قال -عليه الصلاة والسلام-: (من بدل دينه فاقتلوه) (رواه أحمد والبخاري وأصحاب السنن عن ابن عباس).

إعطاء أهل الذمة من الصدقات

أما أهل الذمة وهم أهل الكتاب ومن في حكمهم ممن يعيشون بين ظهراني المسلمين، حيث دخلوا في ذمتهم، وخضعوا لسلطان دولتهم، وقبلوا جريان أحكام الإسلام عليهم، واكتسبوا بذلك التبعية لدار الإسلام، أو ما يشبه “الجنسية” بلغة عصرنا، فهؤلاء في صرف الزكاة والصدقات إليهم، خلاف وتفصيل، نوضحه فيما يلي:

1- الإعطاء من صدقة التطوع:
لا جناح على المسلم أن يعطي غير المسلم من أهل الذمة مما يتطوع به من الصدقات رعاية للرابطة الإنسانية، ولحرمة العهد الذي بينهم وبين المسلمين. وكفرهم بالإسلام لا يمنع من البر بهم والإحسان إليهم – ما داموا غير محاربين للمسلمين – قال تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذي لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين) (الممتحنة: 8).

وقد نزلت هذه الآية ردًا على تحرج بعض المسلمين من برِّ أقاربهم المشركين.

وقبل هذا ما رواه عن ابن عباس: أنهم كانوا يكرهون الصدقة على أنسابهم وأقربائهم من المشركين، فسألوا فرخِّص لهم، ونزلت هذه الآية (ابن كثير: 4/349 – طبع الحلبي). (ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء، وما تنفقوا من خير فلأنفسكم، وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله، وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون) (البقرة: 272).

ومعنى (وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله) – كما قال ابن كثير (الجزء الأول ص 224)- أن المتصدق إذا تصدق ابتغاء وجه الله فقد وقع أجره على الله، ولا عليه في نفس الأمر لمن أصاب: ألبرٍّ أو فاجر؟ أو مستحق أو غيره؟ وهو مثاب على قصده، ومستند هذا تمام الآية: (وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون).

وقد مدح الله الأبرار من عباده بقوله: (ويطعمون الطعام على حبه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا) (الإنسان: 8).

وقد كان الأسرى حينئذ من أهل الشرك، كما جاء عن الحسن وغيره (مصنف ابن أبي شيبة: 4/39-40).

2- الإعطاء من صدقة الفطر:
وقريب من صدقة التطوع، صدقة الفطر، والكفارات والنذور؛ فقد أجاز أبو حنيفة ومحمد وبعض الفقهاء صرفها إلى أهل الذمة، لعموم الأدلة مثل قوله تعالى في الصدقات: (إن تبدوا الصدقات فنعما هي، وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم، ويكفر عنكم من سيئاتكم) (البقرة: 271). من غير فصل بين فقير وفقير.

ومثل قوله -تعالى- في الكفارات: (فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم) (المائدة: 89). (فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا) (المجادلة: 4). من غير فصل بين مسكين ومسكين.
ولأن هذا من باب إيصال البر إليهم وما نهينا عنه.

ومع ذلك قالوا: إن صرف هذه الأشياء إلى فقراء المسلمين أفضل بلا ريب، لما فيه من إعانة المسلم على طاعة الله.
واشترط أبو حنيفة ألا يكون غير المسلم عدوًا محاربًا للمسلمين؛ لأن الصرف إليه حينئذ يقع إعانة له على قتال أهل الإسلام، وهذا لا يجوز (انظر: بدائع الصناع: 2/49).

ونقل أبو عبيد وابن أبي شيبة عن بعض التابعين: أنهم كانوا يعطون الرهبان من صدقة الفطر (الأموال ص 613، 614 والمصنف: 4/39).
3- الإعطاء من زكاة الأموال لا يجوز عند الجمهور:

أما زكاة الأموال من العشر ونصف العشر وربع العشر، فالجمهور الأعظم من العلماء على أنه لا يجوز دفع شيء منها لغير مسلم، حتى قال ابن المنذر: أجمعت الأمة: أنه لا يجزئ دفع زكاة المال إلى الذمي، واختلفوا في زكاة الفطر (انظر: المجموع للنووي: 6/228، والإجماع المذكور في غير المؤلفة قلوبهم).

وأقوى ما استدل به الجمهور لمذهبهم: حديث معاذ: (إن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم، وترد في فقرائهم)، فقد أمر برد الزكاة في فقراء من تؤخذ من أغنيائهم، وهم المسلمون، فلا يجوز وضعها في غيرهم.

مناقشة دعوى الإجماع على ذلك

ولكن دعوى الإجماع الذي نقله ابن المنذر غير مسلَّمة هنا، فقد نقل غيره عن ابن سيرين والزهري. أنهما جوَّزا صرف الزكاة إلى الكفار (المجموع للنووي: 6/228).

وذكر السرخسي في المبسوط: أن زفر صاحب أبي حنيفة يجيز إعطاء الزكاة للذمي، قال السرخسي: وهو القياس؛ لأن المقصود إغناء الفقير المحتاج عن طريق التقرب، وقد حصل، ولكنه رد على قول زفر بحديث معاذ (انظر: المبسوط: 2/202).
وروى ابن أبي شيبة عن جابر بن زيد أنه سئل عن الصدقة: فيمن توضع؟ فقال: في أهل مِلَّتكم من المسلمين وأهل ذمتهم، وقال: (وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقسم في أهل الذمة من الصدقة والخُمس) (مصنف ابن أبي شيبة: 4/40).

وروى ابن أبي شيبة أيضًا بسنده عن عمر في قوله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء …) (التوبة: 60). قال: هم زمني أهل الكتاب (مصنف ابن أبي شيبة: 4/40).

ومن الوقائع المشهورة : ما رواه أبو يوسف عنه أنه فرض للشيخ اليهودي من بيت مال المسلمين ما يصلحه، مستدلاً بآية: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين). قال: “وهذا من مساكين أهل الكتاب” (انظر ص 126 من الخراج – طبع السلفية (الثانية)، ومثل هذا ما رواه البلاذري في تاريخه، ص 177: أن عمر بن الخطاب مر – عن مقدمة الجابية من أرض دمشق – بقوم مجذومين من النصارى، فأمر أن يعطوا الصدقات وأن يجري عليهم القوت. فالظاهر من الصدقات هنا: أنها الزكاة المفروضة. وهي التي تكون تحت يد الولاة، حتى يجزوا منها القوت).

قال صاحب “الروض النضير” (الجزء الثاني ص 426 ) بعد ذكر ما رواه ابن أبي شيبة عن عمر: ففيه دلالة أن مذهب عمر جواز صرفها في أهل الكتاب، وقد نقل صاحب المنار من الزيدية نحوه، وحكاه في “البحر” (البحر الزخار: 2/185) عن الزهري وابن سيرين، قال: وحجتهم عموم لفظ “الفقراء” في الآية.

وروى الطبري (تفسير الطبري بتحقيق محمود شاكر:14/308 )عن عكرمة في قوله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين). قال: “لا تقولوا لفقراء المسلمين مساكين، إنما المساكين مساكين أهل الكتاب” (علق الأساتذة أبو زهرة وعبد الرحمن حسن وخلاف على هذا التفسير – الذي يقول بأن المساكين هم مساكين أهل الكتاب – أنه يفيد فائدتين:

إحداهما: أن الفقير والمسكين صنفان متغايران، لا يغني ذكر أحدهما عن ذكر الآخر في الآية.

وثانيهما: أنه يجوز إعطاء الزكاة إلى المساكين من أهل الذمة، بشرط أن يكونوا عاجزين عجزًا مطلقًا؛ لأن القادرين كانت تؤخذ منهم الجزية، وليس من المعقول أن تؤخذ منهم الجزية، ويعطوا من الزكاة (انظر: حلقة الدراسات الاجتماعية ص 252).

وقَيَّد بعضهم جواز إعطاء الزكاة للذمي بما إذا لم يجد المزكي مسلمًا يستحقها كما حكي ذلك الجصاص عن عبيد الله بن الحسن (أحكام القرآن: 3/315 – طبع الآستانة). وهو قول بعض الإباضية (شرح النيل: 2/123).

موازنة وترجيح

إن أقوى ما استدل به الجمهور لمذهبهم حديث معاذ، والحديث متفق على صحته، ولكن دلالته على ما قالوا غير قاطعة، فالحديث يحتمل أن الزكاة تؤخذ من أغنياء كل إقليم وتُرَد على فقرائه، وهم باعتبار الإقليمية والمواطنة والجوار يُعَدون من الفقراء المنسوبين إلى أولئك الأغنياء، ومن هنا استدلوا بهذا الحديث على نقل الزكاة من بلد إلى بلد لا يجوز.

وعموم الأدلة التي ذكرها الحنفية في جواز صرف صدقة الفطر وما معها، من الآيات التي لم تفصل بين فقير وفقير، ولا بين مسكين ومسكين – يشهد لما روي عن عمر والزهري وابن سيرين وعكرمة وجابر بن زيد وزفر. وكذلك آية الممتحنة التي تقول: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم) (الممتحنة: 8). وقد قالوا: إن ظاهر هذا النصر يقتضي جواز صرف الزكاة إليهم؛ لأن أداء الزكاة بِرُّ بهم، لولا ما دلّ عليه حديث معاذ (انظر البدائع: 2/49).

وقد تبين لنا: أن دلالة حديث معاذ لا تقاوم عموم النصوص الأخرى، وما فهم عمر -رضي الله عنه- في آية: (إنما الصدقات) من شمولها للمسلمين وغير المسلمين.

فالذي نراه بعد موازنة الأدلة: أن الأصل في الزكاة أن تعطى لفقراء المسلمين أولاً؛ لأنها ضريبة مفروضة على أغنيائهم خاصة، ولكن لا مانع من إعطاء الذمي الفقير من الزكاة إذا كان في أموالها سعة، ولم يكن في إعطائه إضرار بفقراء المسلمين. وحسبنا في هذا عموم الآية، وفعل عمر، وأقوال من ذكرنا من الفقهاء، وهذه قمة من التسامح لم يرتفع إليهما دين من قبل.

وهذا إذا كان يعطى باسم الفقر والحاجة، أما إذا أعطي تأليفًا لقلبه، وتحبيبًا للإسلام إليه، أو ترغيبًا له في نصرته والولاء لأمته ولدولته، فقد رجحت الأدلة الناصعة من كتاب الله وسنة رسوله جواز ذلك، وبقاء هذا السهم إلى ما شاء الله، وإن كنا اخترنا أن التأليف وإعطاء المؤلفة قلوبهم، إنما هو من شأن الحكومة الإسلامية لا من شأن الأفراد، ويمكن أن تقوم الجمعيات الإسلامية في ذلك مقام الحكومات.

ولا بد أن ننبه هنا على أن رأي من قالوا بعدم إعطاء الذمي من الزكاة ليس معناه تركه للجوع والعري، كلا، بل يُعان من موارد بيت المال الأخرى كالفيء وخُمس الغنائم والمعادن والخراج وغيرها. وقد ذكر أبو عبيد في “الأموال” كتاب عمر بن عبد العزيز لعامله على البصرة وفيه: “وانظر من قبلك من أهل الذمة قد كبرت سنه، وضعفت قوته، وولت عنه المكاسب. فأجر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه ..” (الأموال ص 46). ومعنى “أجر عليه”: اجعل له شيئًا جاريًا، وراتبًا دوريًا. والجميل حقًا أنه لم يدع أهل الذمة حتى يطلبوا هم المعونة، بل طلب الخليفة من الوالي أن يبادر هو فينظر في حالاتهم ومطالبهم، فيسدها من بيت المال. وهذا هو عدل الإسلام.