الحديث صحيح، ولكن المشكلة تكمن في فهمه فهما صحيحا ، فالحديث لا يدعو إلى القعود واليأس وتثبيط الهمم، ولكنه يدعوا إلى العمل لتغيير واقع المسلمين إلى أحسن حال، وليس معنى الحديث أن هذه الغربة مستمرة ممتدة عبر الزمان والمكان، فقد يكون غريبا في مكان قويا ظاهرا معروفا في مكان آخر، وقد يكون غريبا في زمان ثم يظهره الله في زمان آخر، فليست الغربة أبدية مستمرة عبر الزمان والمكان ، وكلمة غريبا من الغربة وليست من الغرابة.

يقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي:
الحديث صحيح الإسناد بلا نزاع من أهل هذا الشأن، وهو مروي عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم.
فقد رواه مسلم وابن ماجة عن أبي هريرة، والترمذي وابن ماجة عن ابن مسعود، وابن ماجة عن أنس، والطبراني عن سلمان وسهل بن سعد، وابن عباس – رضي الله عنهم جميعًا- كما في الجامع الصغير.

وقد رواه مسلم عن ابن عمر دون جملة “فطوبى للغرباء.
بهذا نعلم أن صحة الحديث لا كلام فيها. وبقي الكلام في معناه.

ومن المؤسف أن كثيرًا من الأحاديث المتعلقة بـ “آخر الزمان” أو ما يسمى “أحاديث الفتن” و”أشراط الساعة” يفهمها بعض الناس فهمًا يوحي باليأس من كل عمل للإصلاح والتغيير.

ولا يتصور أن يدعو الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم- الأمة إلى اليأس والقنوط، وترك الفساد يستشري في الناس، والمنكرات تنخر في عظام المجتمع، دون أن يصنع الناس شيئًا، يقوِّم ما اعوج، أو يصلح ما فسد، وكيف يتصور ذلك وهو – صلى الله عليه وسلم- يأمر بالعمل لعمارة الأرض، إلى أن تلفظ الحياة آخر أنفاسها، كما يتضح ذلك من الحديث الشريف: “إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تقوم – أي الساعة – حتى يغرسها، فليغرسها” (رواه أحمد في مسنده، والبخاري في الأدب المفرد عن أنس، وكذا الطيالسي والبزار، وقال الهيثمي: رواته ثقات أثبات).
ومعنى هذا أنه لن يأكل من ثمر هذا الغرس ولا أحد من بعده ما دامت الساعة قد قامت، أو توشك أن تقوم.
فإذا كان هذا مطلوبًا في أمر الدنيا، فأمر الدين أعظم وأجل، ولا بد من العمل من أجله إلى آخر رمق في هذه الحياة.
أما معنى كلمة “غريبًا” فالمتبادر أنها من “الغربة” لا من “الغرابة” بدليل آخر الحديث “فطوبى للغرباء” فالغرباء هنا جمع “غريب” والمراد به المتصف بالغربة لا الغرابة.
وإنما كانت غربتهم من غربة الإسلام الذي يؤمنون به ويدعون إليه، وهذا هو المعنى المفهوم من كلمة “غريب” في أكثر من حديث مثل “كن في الدنيا كأنك غريب” رواه البخاري.

كما جاءت جملة أحاديث وروايات فيها زيادات في هذا الحديث، في وصف “الغرباء” مما يؤكد أن المقصود هو الغربة لا الغرابة.

هذا إلى أن الواقع اليوم وفي عصور خلت، يدل على غربة الإسلام في دياره ذاتها، وبين أهله أنفسهم.
ولكن هل هذه الغربة عامة وشاملة ودائمة أو غربة جزئية ومؤقتة؟ فقد تكون في بلد دون آخر، وفي زمن دون آخر، وبين قوم دون غيرهم، كما ذكر ذلك المحقق ابن القيم رضي الله عنه.

والذي أراه أن الحديث يتحدث عن “دورات” أو “موجات” تأتي وتذهب وأن الإسلام يعرض له ما يعرض لكل الدعوات والرسالات من القوة والضعف، والامتداد والانكماش، والازدهار والذبول، وفق سنن الله التي لا تتبدل. فهو كغيره خاضع لهذا السنن الإلهية، التي لا تعامل الناس بوجهين، ولا تكيل لهم بكيلين، فما يجري على الأديان والمذاهب يجري على الإسلام، وما جري على سائر الأمم يجري على أمة الإسلام.

فالحديث ينبئ عن ضعف الإسلام في فترة من الفترات، ودورة من الدورات، ولكنه سرعان ما ينهض من عثرته، ويقوم من كبوته، ويخرج من غربته، كما فعل حين بدأ.

فقد بدأ غريبًا، ولكنه لم يستمر غريبًا، لقد كان ضعيفًا ثم قوي، مستخفيًا ثم ظهر، محدودًا ثم انتشر، مضطهدًا ثم انتصر.
وسيعود غريبًا كما بدأ، ضعيفًا ليقوى ثم يقوى، مطاردًا ليظهر ثم يظهر على الدين كله، ملاحقًا مضطهدًا لينتشر وينتشر ثم ينتصر وينتصر.
فلا دلالة في الحديث على اليأس من المستقبل إن أحسنا فهمه.

ومما يدل على أن الحديث لا يعني الاستسلام أو اليأس، ولا يدعو إليه بحال، ما جاء في بعض الروايات من وصف لهؤلاء “الغرباء” من أنهم الذين يصلحون ما أفسد الناس من السنة، ويحيون ما أماته الناس منها.

فهم قوم إيجابيون بناؤون مصلحون، وليسوا من السلبيين أو الانعزاليين أو الاتكاليين، الذين يدعون الأقدار تجري في أعنتها، ولا يحركون ساكنًا، أو ينبهون غافلاً.