الذي يَقصِد الحجاز أي المنطقة التي فيها الحرم المكي إما أن يكون مريدًا للنُّسُك، أي الحج أو العمرة، وإما ألا يكون مريدًا لذلك، كأن يريد زيارة صديق أو قضاء أية مصلحة أخرى.
ولكلٍّ حُكمُه:
1 ـ الذي يريد النُّسُك لا يجوز له أن يُجاوِز الميقات المعروف للقادمِين لحج أو عمرة إلا بالإحرام، ودليله أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقَّت المواقيت وقال فيما قال: “هُنَّ لِهُنَّ ولمَن أتَى عليهنَّ من غيرهنَّ لمن أراد الحج أو العمرة” رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس. فإن جاوَز الميقات بدون إحرام وَجَب عليه أن يَرجِع إليه ويُحْرِم منه، فإن لم يَرجِع وأَحرَم مِن مَكانه يَلزمُه دَمٌ، أيْ ذبْح شاة.
2 ـ أما من لا يريد النُّسُك فهو على قسمين:
(1) قسم لا يريد النسك ولا يريد دخول الحرم المكي ـ والحرم له حدود معينة غير المواقيت ـ بل يريد حاجة في غيره من المناطق، كجدة أو المدينة المنورة مثلاً، فهذا لا يَلزَمه الإحرام ولا يجب عليه شيء في ترْكه، وهذا باتفاق العلماء، والدليل أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه تَجاوَزوا ميقات المدينة ـ وهو ذو الحُلَيْفة أو آبار علىّ ـ أكثر من مرة لغير النسك في غزوة بدر وغيرها وكانوا غير مُحْرِمِين، ولم يَرَوا بذلك بأسًا.
(ب) وقسم لا يريد النسك ولكن يريد دخول الحرم، وهذا القسم طوائف:
1 ـ طائفة تريد دخوله لقتال مشروع أو للأمن من خوْف، وهذه الطائفة لا يجب عليها الإحرام، والدليل ما رواه البخاري أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دخل مكة عام الفتح، وعلى رأسه المِغْفَر. قال مالك: ولم يكن رسول الله يومئذ مُحرِمًا. وكذلك ما رواه مسلم أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ دخل مكة وعليه عِمامة سوداءَ بغير إحرام.
2 ـ طائفة تريد دخوله لحاجة متكررة تَقتضي كثرة التردد على الحرم، ومثَّل العلماء لها بالحطابين وناقلي المُؤن ومن له صيغة أو تجارة داخل الحرم أو خارجه ومثلهم المدرِّسون والموظَّفون الذين يَخرجون من الحرم أو يَدخلونه عدة مرات. وهذه الطائفة كالطائفة السابقة لا يجب عليها الإحرام عند دخول الحرم؛ لأن تكليفهم الإحرام لكل دخول فيه حرَج، والدين لا حرج فيه، والنصوص في ذلك كثيرة مشهورة. واستأنسوا بقول ابن عباس: لا يدخل أحد مكة بغير إحرام إلا الحطّابين، لكن سند الرواية عنه ضعيف.
3 ـ طائفة تريد دخول الحرم لا لقتال ولا لحاجة متكررة كالطائفتين السابقتين، وهؤلاء كالسائحين والزائرين والمكلَّفين بمهمات مؤقتة.
وفيهم ثلاثة أقوال:
(أ) قول يَلزَمهم الإحرام عند دخول الحرم ، هو مروي عن ابن عباس. أخرج البيهقي عنه: “لا يدخل أحد مكة. إلا محرمًا” وإسناده جيد، ورواه ابن عدي مرفوعًا إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من وجهين ضعيفين. وهذا مذهب أحمد في ظاهره، ومذهب الشافعي في أحد أقواله.
(ب) قول يَجعلهم كالحطّابين وأمثالهم لا يُوجِب عليهم الإحرام، وهو مذهب الشافعي في قوله الآخر. ومذهب أحمد في رواية عنه.
ودليلهم أن ابن عمر رَجَع من بعض الطريق ودَخَل مكة غير مُحْرِم، وإذا قيل بسقوط هذا الدليل لأنه مُعارَض بما وَرَدَ عن ابن عباس في لزوم الإحرام قالوا: كان المسلمون في عَصْر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَختلفون إلى مكة لحوائجهم ولم يُنقَل أنه أمَر أحدًا منهم بإحرام، كقصة الحجّاج بن علاط وقصة أبي قتادة لما عَقَر حمار الوحْش داخل الميقات وهو حلال، وكان النبي قد أرسله لغَرَض قبل الحج، فجاوز المقيات لا بِنِيَّة الحج ولا العمرة، فقرَّره ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقالوا أيضًا : إن الحرم المكي أحد الحرمين ـ مكة والمدينة ـ فلا يَلزَم الإحرام لدخوله كما لا يَلزَم لدخول الحَرَم المدنيِّ. ثم قالوا: وجوب الإحرام للدخول يكون من الشارع ولم يَرِد منه إيجاب بذلك على كل داخل، فيَبقَى الدخول على الأصل وهو الحِلُّ. وهذا القول قوَّاه كثير من العلماء المحقِّقين.
(جـ) قول ثالث لأبي حنيفة هو التفصيل، فإن كان مَن يريد دخول الحرم داخل المواقيت دخله بغير إحرام؛ لأنه يعد كأنه داخل الحرم نفسه، وإن كان خارج المواقيت يَلزَمه الإحرام لدخول الحرم، كما ذَهَب إليه أصحاب القول الأول.
هذا عرْض لما قيل في هذا الموضوع ، ومعاملة مَن يَدخلون الحَرم لأمْر موقَّت. أو مَن يَخرجون منه لحاجة مؤقتة ثم يَعودون إليه ـ كمعاملة الحطّابين وأمثالهم هو ما يؤيِّده الدليل ويَقتضيه رفْع الحرج في الدين.
قال ابن القيم في زاد المعاد بعد عرض الأقوال: وهَدْى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ معلوم في المجاهِد ـ أي لا إحرام عليه ـ ومُريد النُّسُك ـ أي في وجوب الإحرام ـ وأمّا مَن عَداهما فلا واجب إلا ما أوجَبه الله ورسوله أو أَجمَعتْ عليه الأمَّة.