الإيثار : هو تقديم الغير على النفس، أو إعطاء الغير وحرمان النفس، وأعلى الإيثار أن تعطي غيرك كل ما معك فتقدمه على نفسك، فتطعمه وتجوع، وتلبسه وتعرى ، وتسقيه وتظمأ، وتحييه وتموت!

وقد وصف القرآن الأنصار بالإيثار في موقف كهذا ، في أسرة قدمت عشاءها كله لضيفها فأطعمته وحده وباتت هي طاوية جائعة تتضور من الجوع، ذلك ما رواه البخاري بسنده من حديث أبي هُرَيرة قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أصابني الجهدُ، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “ألا رجل يُضَيّفُ هذا الليلة، رحمه الله؟”. فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله. فذهب إلى أهله فقال لامرأته: ضَيفُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تَدّخريه شيئًا. فقالت: والله ما عندي إلا قوتُ الصبية. قال: فإذا أراد الصبيةُ العَشَاء فنوّميهم وتعالى فأطفئي السراج ونَطوي بطوننا الليلة. ففعلَت، ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: “لقد عجب الله، عز وجل -أو: ضحك-من فلان وفلانة”. وأنزل الله عز وجل: { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } .

والإيثار بعرض الدنيا متصور وإن كان عسيرا، ولكن ما يصعب على العقول أن تتصوره هو الإيثار بالدنيا جميعا ، الإيثار بالحياة، أن تحيي غيرك بموتك، وأن تهبه الحياة ساعة تضيق الحياة بكما معا، فتؤثره بها وتسلم نفسك لموت محقق.

وهذا ما حدث مع بعض من أظهرت الدنيا حكاية موتهم  في عرض البحر بعد غرق عبارة السلام ! التي كانت في طريقها إلى ميناء سفاجة المصري، فقد آثر أبوان وليدهما بطوق النجاة.

ويتساءل الناس عن موقف الشرع من هذا اللون العالي من الإيثار؟

وللإجابة عن ذلك فلا بد أولا أن ننظر بإكبار وإجلال إلى شريعتنا الغراء ، التي استنبط فقهاؤنا منها أن ثمة حالتين يجب فيهما الإيثار بالنفس :-

الأولى:- الدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

الثانية:- دفاع الحكومات عن رعاياها، فعلى الحكومات أن تدافع عن رعياها حتى تنفد آخر قطرة في دمائها.

جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية :-

إذا استغاث المسلم لدفع شر وجبت إغاثته , لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم { وتغيثوا الملهوف وتهدوا الضال} وقوله عليه السلام {من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة} وهذا إذا لم يخش المغيث على نفسه ضرا , لأن له الإيثار بحق نفسه دون حق غيره , وهذا في غير النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } . أما الإمام ونوابه فإنه يجب عليهم الإغاثة , ولو مع الخشية على النفس , لأن ذلك مقتضى وظائفهم .انتهى.

وأما الإيثار بالنفس فيما عدا هاتين الحالتين فمما لم يخل منه تاريخنا، فقد سجل التاريخ صحائف من نور في سجل التضحيات مآثر عالية، منها:-

1- قال حذيفة العدوي:انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي – ومعي شيء من الماء – وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته، فإذا أنا به، فقلت له: أسقيك، فأشار برأسه أن نعم فإذا أنا برجل يقول: آه ! آه ! فأشار إليّ ابن عمي أن انطلق إليه، فإذا هو هشام بن العاص فقلت: أسقيك ؟ فأشار أن نعم.

فسمع آخر يقول: آه ! آه ! فأشار هشام أن انطلق إليه فجئته فإذا هو قد مات.فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات.فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات.

2- ومن ذلك ما حكاه ابن سعد بسنده في الطبقات، قال :طلب الحجاج إبراهيم النخعي، فجاء الرسول- يقصد الضابط المنوط به تنفيذ قرار الاعتقال- فقال: أريد إبراهيم، فقال إبراهيم التيمي: أنا إبراهيم، ولم يستحل أن يدله على النخعي، فأمر بحبسه، ولم يكن لهم ظل من الشمس، ولا كن من البرد.

و كان كل اثنين في سلسلة، فتغير إبراهيم، فعادته أمه، فلم تعرفه، حتى كلمها، فمات، فرأى الحجاج في نومه قائلا يقول: مات في البلد الليلة رجل من أهل الجنة، فسأل، فقالوا: مات في السجن إبراهيم التيمي، فقال: حلم، نزغة من نزغات  الشيطان.

وجاءت كلمة الفقهاء متساوقة مع هذه التضحيات الكبيرة، فقد قال السيوطي في الأشباه والنظائر:-

…..قال الشيخ أبو محمد في الفروق : من دخل عليه وقت الصلاة , ومعه ما يكفيه لطهارته , وهناك من يحتاجه للطهارة , لم يجز له الإيثار , ولو أراد  المضطر إيثار غيره بالطعام لاستبقاء مهجته , كان له ذلك وإن خاف فوات مهجته . والفرق أن الحق في الطهارة لله فلا يسوغ فيه الإيثار , والحق في حال المخمصة لنفسه , وقد علم أن المهجتين على شرف التلف إلا واحدة تستدرك بذلك الطعام , فحسن إيثار غيره على نفسه . انتهى.

ويقول الإمام  الفقيه المفسر ابن العربي:-

الإيثار بالنفس فوق الإيثار بالمال , وإن عاد إلى النفس ومن الأمثال السائرة : والجود بالنفس أقصى غاية الجود ومن عبارات الصوفية في حد المحبة : إنها الإيثار , ألا ترى أن امرأة العزيز لما تناهت في حبها ليوسف عليه السلام آثرته على نفسها بالتبرئة , فقالت : { أنا راودته عن نفسه } . وأفضل الجود بالنفس الجود على حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم ; ففي الصحيح { أن أبا طلحة ترس على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد , وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتطلع فيرى القوم , فيقول له أبو طلحة : لا تشرف يا رسول الله , لا يصيبونك , نحري دون نحرك . ووقى بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلت } .