من وجد طفلة صغيرة وقام بتربيتها حتى كبرت فكيف يتعامل معها عند الكبر هل تكون كإحدى بناته.

الفتاة التي يتكفلها الرجل هي فتاة أجنبية عنه، وهي مأمورة بالاحتشام منه وألا يرى منها إلا ما أباح الشارع في رؤيته للأجانب وهو الوجه والكفين، فكفالته لها والقيام على أمرها لا يعطيه الحق في الإطلاع إلا على الوجه والكفين.

ولكن هناك حل في هذه المسألة، وهو أن تقوم زوجته إن كانت مرضعة أو أخته بإرضاع هذه الفتاة، فإنه يعد أبا لها في الرضاعة إذا كانت زوجته قامت بإرضاعها، وإن قامت أخته بإرضاعها فهو خالها في الرضاعة، ولو كانت عنده ابنة ترضع وقامت بإرضاعها صار جدا لها في الرضاعة، ويحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب، وانتفت عنه صفة الأجنبي عن الفتاة وصار محرما لها.

وفي هذه المسألة أمران نقف عليهما :

الأمر الأول :وهو رضاع الكبير إن كانت هذه الفتاة سنها عشرة أعوام أو أكثر، فجمهور الفقهاء على أن الرضاع الذي يحرم هو ما كان دون الحولين ـ ولو قامت الزوجة بإرضاعها وعمرها عدة شهور لكان أبا لها ولما احتاج إلى اختلافات الفقهاء في رضاع الكبير، فالجمهور على أن رضاع الكبير لا يحرم، ولكن أجاز بعض الفقهاء رضاع الكبير وجعلوا هذا الرضاع يثبت به التحريم لمن احتاج إليه حاجة شديدة، وجعلوه رخصة من الرخص، وهذا مذهب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، ورجحه ابن الأمير الصنعاني وكذلك الشوكاني لحديث رضاع سالم مولى أبي حذيفة من زوجة أبي حذيفة، سهلة بنت سهيل وهو كبير، والحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : “جَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَرَى فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْ دُخُولِ سَالِمٍ وَهُوَ حَلِيفُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرْضِعِيهِ. قَالَتْ: وَكَيْفَ أُرْضِعُهُ وَهُوَ رَجُلٌ كَبِيرٌ ؟ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ رَجُلٌ كَبِيرٌ. زَادَ عَمْرٌو فِي حَدِيثِهِ : وَكَانَ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا “.

قال ابن رشد في بداية المجتهد :
اختلفوا في رضاع الكبير فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي وكافة الفقهاء : لا يحرم رضاع الكبير، وذهب داود وأهل الظاهر إلى أنه يحرم، وهو مذهب عائشة، ومذهب الجمهور هو مذهب ابن مسعود وابن عمر وأبي هريرة وابن عباس وسائر أزواج النبي عليه الصلاة والسلام. أهـ

قال الشوكاني في نيل الأوطار : “الرضاع يعتبر فيه الصغر، إلا فيما دعت إليه الحاجة كرضاع الكبير الذي لا يستغني عن دخوله على المرأة، ويشق احتجابها منه، وإليه ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وهذا هو الراجح عندي، وبه يحصل الجمع بين الأحاديث”. انتهى.
وساق ابن الأمير الصنعاني كلام ابن تيمية في سبل السلام ثم قال : “فإنه جمع بين الأحاديث حسن، وإعمال لها من غير مخالفة لظاهرها باختصاص ولا نسخ ولا إلغاء لما اعتبرته اللغة ودلت له الأحاديث”. انتهى.

وقال ابن القيم في زاد المعاد :

إن حديث سهلة ليس بمنسوخ ولا مخصوص ولا عام في حق كل أحد وإنما هو رخصة للحاجة لمن لا يستغني عن دخوله على المرأة ويشق احتجابها عنه كحال سالم مع امرأة أبي حذيفة فمثل هذا الكبير إذا أرضعته للحاجة أثر رضاعه وأما من عداه فلا يؤثر إلا رضاع الصغير وهذا مسلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى .أهـ

الأمر الثاني: وهو أن التحريم في الرضاع لا يقتصر على المرأة التي أرضعت فقط بل ينتشر إلى الرجل أيضا.

جاء في كتاب جامع العلوم والحكم للإمام ابن رجب الحنبلي :
وينتشر التحريم أيضا إلى الفحل صاحب اللبن الذي ارتضع منه الطفل فيصير صاحب اللبن أبا للطفل وتصير أولاده كلهم من المرضعة أو من غيرها من نسب أو رضاع إخوة للمرتضع وتصير إخوته أعماما للطفل المرتضع وهذا قول الجمهور من السلف وأجمع عليه الأئمة الأربعة ومن بعدهم وقد دل على ذلك من السنة ما روت عائشة رضي الله عنها : أن أفلح أخا أبي القعيس استأذن عليها بعد ما أنزل الحجاب، قالت عائشة : فقلت والله لا آذن له حتى أستأذن رسول -صلى الله عليه وسلم-، فإن أبا القعيس ليس هو أرضعني ولكن أرضعتني امرأته ـ قالت : فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت ذلك له فقال ائذني له فإنه عمك تربت يمينك وكان أبو القعيس زوج المرأة التي أرضعت عائشة رضي الله عنها خرجاه في الصحيحين بمعناه. أهـ

وإن تورعت الفتاة عن ذلك واحتجبت عن الرجل الذي كفلها فهو الأفضل لما ذهب إليه الجمهور من حرمة ذلك، وإن أردت أن تستفيد بما أفتت به أم المؤمنين عائشة واختاره ابن تيمية ورجحه فلها ذلك.