الوسواس إذا كان سببه الشيطان، فإن الاستعاذة بالله، والاستعانة به، وتلاوة الأذكار، والرقى المتعلقة بذلك تفيد في طرده، وإزالة الوسوسة، لأن الشيطان يخنس بهذا كما أخبرنا الله تعالى، وما دام الإنسان يستعين بالله على هذا النحو فلا تضره الخواطر التي لم تصل إلى أن تكون معتقدات وأفكارا، أما إذا كان الوسواس له أسباب مادية محسوسة، فالواجب مع الاستعانة بالله، والدعاء والضراعة إليه عرض الحالة على طبيب مختص، كما قال تعالى : (ولا ينبئك مثل خبير).

يقول الشيخ عطية صقر -رحمه الله تعالى – :

إن للشيطان مداخل كثيرة لإغواء الإنسان، وأشد ما يهتم به العقيدة، لأنها إذا انحرفت انحرف السلوك كما صح في الحديث : “ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب”. (رواه البخاري ومسلم).

والنفس مرتع خصيب لوسوسة الشيطان، فقد تمر عليها أفكار وخواطر كثيرة، بعضها يمر عابرًا لا يمكث إلا قليلا، وبعضها يأخذ حيزًا من تفكير الإنسان ثم يمضي، وبعضها الآخر قد يثبت ويرسخ ويدفع للتنفيذ.

وإذا كانت هذه هي طبيعة النفس البشرية التي خلقنا الله عليها فإنه –وهو العليم اللطيف الخبير- تجاوز عن كل هذه الخواطر ولا يؤاخذ عليها؛ إلا في حالتين :

الأولى : إذا عزم الإنسان عليها عزمًا أكيدًا وصمم على تنفيذها، بدليل حديث الصحيحين -البخاري ومسلم- : “إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار” قيل : يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال “كان حريصًا على قتل صاحبه”.

والحالة الثانية : إذا نفذ ما عزم على تنفيذه، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال “إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به. (رواه الجماعة في كتبهم الستة كما قال ابن كثير في تفسيره).

ومحل المؤاخذة على العزم على السيئة، وإن لم يفعلها، إذا كان المانع من فعلها عجزًا أو خوفًا من رقيب من الناس، لكن إذا كان المانع من تنفيذ ما عزم عليه خوفًا من الله فلا يؤاخذهن بل قد يعطيه ثوابًا على مجاهدة نفسه، وبهذا يوفق بين ما قد يكون في بعض النصوص من تضارب في الظاهرة.

بعد هذا نقول : إن من خواطر السوء ما جاء في صحيح مسلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- : “يأتي الشيطان أحدكم فيقول له : من خلق كذا وكذا؟ حتى يقول له: من خلق ربك فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته”.
وقد سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الوسوسة فقال : “تلك محض الإيمان” وفي رواية “صريح الإيمان” بمعنى أن الخوف من هذه الوسوسة يدل على الإيمان الخالص، لا أن الوسوسة تكون من الإيمان.

وقد بيّن الحديث الدواء الناجح لهذه الوسوسة، وهو الاستعاذة بالله والانتهاء عن التمادي فيها والركون إليها، وذلك من وحي قوله تعالى (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم) [الأعراف: 200].

وإذا استعاذ الإنسان الضعيف بالله القوي كان ذلك دليلاً على عبوديته الخالصة له، والله يقول للشيطان الذي أقسم أن يغوي الناس أجمعين (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) [الحجر: 42].

ويوضح هذا ما حكى عن بعض السلف أنه قال لتلميذه: ما تصنع بالشيطان إذا سول لك الخطايا؟ قال: أجاهده. قال: فإن عاد؟ قال: أجاهده. قال: فإن عاد؟ قال: أجاهده. قال: هذا يطول؟ قال: أرايت لو مررت بغنم ينبحك كلبها ومنعك من العبور ما تصنع؟ قال: أكابده وأرده جهدي قال : هذا يطول عليك؟ لكن استغث بصاحب الغنم يكفه عنك. فالاستعانة بالله القوي سبيل لطرد وساوس الشيطان.

فهناك ثلاثة أنواع من الأفكار التي تخطر على ذهن الإنسان بشيء محرم :

النوع الأول :

فكرة أو أفكار تدعو الإنسان لفعل شيء محبب للنفس مثل الزنا أو غيره، وهذه الأفكار يكون مصدرها حديث النفس، أو وسوسة الشيطان، أو تأثيرات الواقع المحيط بالإنسان الذي يزين له الوقوع في هذا الأمر، وغالباً ما تتنوع هذه الأفكار في أشكالها وتفاصيلها، وترتبط بالمستوى الإيماني للإنسان، وصحبته الخيرة، وانشغال ذهنه بهذا الأمر المحبب للنفس، أو بغيره من أنشطة تصرف الذهن عنه، وعلاج هذه الأفكار أساساً يكون بالاستعاذة، واستثمار الطاقة النفسية والفكرية والاجتماعية في صداقات واهتمامات نافعة.

أما النوع الثاني :

فهو وساوس في العبادة مثل الزيادة أو النقص في الصلاة وهو من الشيطان، ولا يتكرر إلا بمعدل متقطع، وعلاجه الاستعاذة، والخشوع والتركيز في أداء العبادة.

وكلا النوعين السابقين يمكن التحكم فيهما، والسيطرة عليهما ببذل بعض الجهد.

النوع الثالث :

وهو الوسواس القهري وهو “بتبسيط” نوع من تسلط فكرة محددة وكريهة ومرفوضة على ذهن الإنسان، وتأتي هذه الفكرة بشكل متكرر جدًّا، وتقتحم على الإنسان حياته لتفسدها تماماً، وهذا النوع لا يمكن التحكم فيه أو السيطرة عليه مهما بذل الإنسان من جهد في الاستعاذة أو محاولة صرف التركيز الذهني عنه.

ومحتوى هذه الأفكار أو “الفكرة الواحدة المحددة البغيضة المقتحمة المتسلطة” يتنوع فقد يكون محتوى دينيًّا أو دنيويًّا في العقيدة أو في غيرها من شئون الحياة، ولا تأتي هذه الفكرة بسبب الالتزام، وإنما هي تعبير عن المرض الذي يصيب الملتزم وغير الملتزم، المؤمن والكافر بنفس الكيفية والأعراض والمواصفات بغض النظر عن اختلاف محتوى الفكرة من شخص إلى آخر، كما أن هذا المرض لا علاقة له بالجن أو اللبس أو غيره، فهذا مرض تتضافر فيه بعض العوامل الوراثية، والاضطرابات البيولوجية الكيميائية الجسدية، والاختلالات النفسية الفردية، وبعض التأثيرات الثقافية والاجتماعية لتنتج الأعراض التي يشكو منها المريض.

ومن باب التأثيرات الثقافية والاجتماعية يأتي أحياناً المحتوى العقائدي للفكرة البغيضة المتسلطة، وقد يتلاقى الاستعداد المرضي الوراثي/البيولوجي/النفسي مع خاطرة شيطانية من هنا أو هناك لتكون هي “مجرد” المحتوى للفكرة المتسلطة.

ونحتاج إلى الاستعانة بالله على كل حال، والأخذ بالأسباب في كل الأحوال، ومن الأخذ بالأسباب أن النوع المرضي الأخير يحتاج إلى علاج بالعقاقير، وعلاج نفسي قد يطول، ويستحسن أن يبدأ فوراً إذا صح التشخيص أن هذا هو مرض “الوسواس القهري، أما إذا كانت المسألة متعلقة بخواطر سوء متنوعة تأتي وتذهب، تشغل التفكير حيناً ثم تنصرف بالاستعاذة، وذكر الله سبحانه، ويمكن وقفها، والانتهاء عنها ببذل بعض الجهد والإرادة؛ فإن الأمر يكون أبسط، ولا مفر إذن من مراجعة الطبيب لتشخيص حالة كل مريض.

وفي فتوى للدكتورعبد المعز حريز -أستاذ الفقه وأصوله في الجامعة الأردنية- عن علاج الوسوسة يقول :

الوسوسة تجعل الإنسان مضطرباً ولا يدري كيف يحكم على الأشياء، وحل هذه المشكلة يعتمد على أمرين :

أولهما : الدعاء والاستعانة بالله عز وجل على التخلص من هذا الأمر، بل والإخلاص في الدعاء، مع قراءة بعض الأذكار المأثورة في الصباح والمساء وعند النوم.

الأمر الثاني : يعتمد على استعمال بعض الأمور الحسية المعينة على إنهاء هذا الوسواس وذلك باتخاذ بعض الإشارات أو العلاقات التي تعين على رؤيتها وعند ذلك تتأكد من وجود الفعل الذي فعلته.

وأضرب مثالاً، الوضوء مثلاً قد تشك ويوسوس لك الشيطان في عدد مرات الوضوء أو في الوضوء ذاته، وعند ذلك يستخدم أسلوب الاستعانة ببعض الحواس أو الأمور الحسية، كأن يقوم الإنسان بعمل معين بعد الوضوء مباشرة ويربط الوضوء به، وعند وجود الوسوسة لاحقاً، فإنه يطرد هذه الوسوسة من خلال أمر حسيّ موجود، وكذلك الصلاة يحرص على أدائها جماعة فبذلك ينتهي الوسواس وهكذا في بقية الأمور؛ والدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها.