شاع عن بعض الصوفية أنهم يعتبرون أن عبادة الله طمعا في جنته، وفرقا من عذابه تدل على دناءة النية، وخسة المقصد، وذهبوا إلى أن أشرف النوايا أن يعبد الله لذاته دون رغب أو رهب.
والذي رآه المحققون أن هذا من غلو الصوفية، وهذا القرآن بين أيدينا يزكي من يدعوه رغبا ورهبا، ويمتدحه، ويخوف من النار بذكر عذابها، ويرغب في الجنة بذكر نعيمها.
يقول الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي :-
لقد شَنَّع الصوفية على مَن عَبَدَ الله بهذا القَصد، وقالوا: لا يَنبغي للعابد أن يَعبد الله ويَقوم بأمره ونهيه، خوفًا من عقابه أو طمعًا في ثوابه؛ فإن مثل هذا العابد واقف مع غَرضِه وحظ نفسه، ومحبة الله حقًّا تأبَى ذلك وتُنافيه؛ فإن المُحِبَّ لا حَظَّ له مع محبوبه، فوُقُوفُه مع حَظِّه عِلَّةٌ في محبته، كما أنَّ طمعه في الثواب تَطلُّع إلى أنه يَستحق بعمله على الله ـ تعالى ـ أُجرةً، وفي هذا آفتَان: تَطلُّعه إلى الآخِرة، وإحسان ظَنِّه بعمله، ولا يُخلِّصه من ذلك إلا تجريد العبادة والقيام بالأمر والنهي من كل عِلَّة، بل يقوم به تعظيمًا للآمر الناهي، وأنه أهْلٌ أن يُعبَد وتُعظَّم حُرُمَاتُه، فهو يَستحق العبادة والتعظيم والإجلال لذاته، كما في الأثر الإلهي: (لو لم أَخْلُق جَنة ولا نارًا، أما كنتُ أهلاً أن أُعبَد)؟ ذَكر ابن القيم في المدارج: إنه أثر إسرائيلي، ومنه قول القائل:
هَبِ البعث لم تأتنا رسْله وجاحمة النار لم تُضرمِ
أليس من الواجب المستحَق ثناءُ العباد على المُنعِم؟
فالنفوس الزكية العَليَّة تعبده؛ لأنه أهل أن يُعبدَ، ويُجَلَّ ويُحبَّ ويُعظَّمَ، فهو لذاته مستحِقٌّ للعبادة، قالوا: ولا يكون العَبد مع ربه، كأجير السُّوء: إن أُعطيَ أجره عَمِلَ، وإنْ لم يُعطَ لم يَعمل، فهذا عَبْد الأُجرة، لا عَبْد المحبة والإرادة.
ولهذا يروون عن رابعة الأبيات المشهورة:
كلهم يعبدون من خوف نار ويرون النجاة حظًّا جزيلا
أو بأن يدخلوا الجِنان فيَحظوا بنعيم ويَشربوا سَلسبيلا
ليس في الجنان والنار حظٌّ أنا لا أَبتغي بحبِّي بديلا
ومِن علماء المسلمين مَن رَدَّ على هذا الكلام، واعتبره من شَطْحَات القوم ورُعوناتهم، ولم يَرَ أيَّ حَرَجٍ أو نقص في عبادة الله خوفًا وطمعًا، ورغَبًا ورَهَبًا، واحتَجَّ هؤلاء العلماء بأحوال الأنبياء والرسل والصديقين والصالحين،:ودُعائهم والثناء عليهم ـ في كتاب الله ـ بخوفهم من النار، ورجائهم للجنة، كما قال ـ تعالى ـ في خواصِّ عباده الذين عبدهم المشركون ودعوهم من دون الله أو مع الله: (أولئك الذين يَدعون يَبتغون إلى ربِّهمُ الوسيلةَ أيُّهُم أقربُ ويَرجُون رحمتَه ويَخافون عذابَه إن عذابَ ربِّك كان مَحذورًا) (الإسراء:57).
وذكر ـ سبحانه ـ عباده الذين شرَّفهم بالإضافة إلى اسمه (الرحمن) فسَمَّاهم (عباد الرحمن)، وأثنى عليهم بأحسن أعمالهم، فجعل منها: استعاذتهم به من النار، فقال ـ تعالى ـ: (والذين يقولون ربنا اصرِفْ عنا عذابَ جَهنَّمَ إنَّ عذابَها كان غرامًا . إنَّها ساءتْ مُستقرًّا ومُقامًا) (الفرقان 65، 66).
وأخبر عنهم أنهم تَوسَّلوا إليه بإيمانهم أن يُنجيهم من النار، فقال ـ تعالى ـ: (الذين يقولون ربَّنا إننا ءامَنَّا فاغفِر لنا ذُنوبَنا وقِنَا عذابَ النارِ) (آل عمران: 16)، فجعلوا أعظم وسائلهم إليه وسيلة الإيمان، أن يُنجيَهم من النار، وأخبر ـ تعالى ـ عن سادات العارفين أُولي الألباب: أنهم كانوا يَسألونه جنَّته، ويَتعوذون به من ناره، فقال ـ تعالى ـ: (إنَّ في خلقِِ السماواتِ والأرضِ واختلافِ الليلِ والنهارِ لآياتٍ لأُولي الألبابِ . الذين يَذكُرونَ اللهَ قيامًا وقُعودًا وعلى جُنُوبِهِم ويَتفَكَّرون في خَلْقِِ السماواتِ والأرضِ ربَّنا ما خَلقتَ هذا باطلاً سُبْحانك فقِنَا عذابَ النارِ . ربَّنا إنَّك مَن تُدخِلِ النارَ فقد أَخزيتَه وما للظالمينَ مِن أنصارٍ . ربَّنا إنَّنا سَمِعنَا مُناديًا يُنادي للإيمانِ أن ءامِنوا بربكم فآمنَّا ربَّنَا فاغْفِر لنا ذنوبَنا وكَفِّرْ عَنَّا سيِّئَاتِنا وتَوفَّنا مع الأبرارِ . ربنا وءاتِنا ما وَعدتَّنَا على رُسُلِكَ ولا تُخْزِنَا يومَ القيامةِ إنَّك لا تُخلفُ الميعادَ . فاستَجابَ لهم ربهم أنِّي لا أُضيعُ عَملَ عاملٍ منكم)..(الآية آل عمران: 190 ـ195).
ولا خلاف أن الموعود به على أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ هو الجنةُ التي سألوها.
وقال عن خليله إبراهيم ـ عليه السلام ـ: “والذي أطمعُ أن يَغفرَ لي خَطيئتي يومَ الدينِ. ربِّ هَبَ لي حكمًا وأَلحقْني بالصالحين . واجعل لي لسان صِدقٍ في الآخِرين . واجْعَلني من وَرثةِ جنةِ النعيمِ . واغفِرْ لأبي إنَّهُ كانَ مِنَ الضالينَ . ولا تُخزني يوم يُبعثونَ”(الشعراء: 82 ـ87)
فسألَ الله الجنة واستعاذَ به من النار وهو الخِزيُ يوم البعث.
وأخبرنا ـ سبحانه ـ عن الجنة: أنها كانت وَعْدًا عليه مسئولاً، أي يَسأله إياها عبادُه وأولياؤه.

وأَمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أُمَّتَه أن يَسألوا له في وقت الإجابة ـ عُقيب الأذان ـ أعلى منزلة في الجنة، وأخبر أن من سألها له حَلَّت عليه شفاعته.
وقال له سليم الأنصاري: “أما إني أسال الله الجنة، وأستَعيذ به من النار، لا أُحسِنُ دندنتك، ولا دندنة معاذ! فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: “أنا ومعاذ حولها نُدندِن”!.

وفي الصحيح، في حديث الملائكة السيارة: أن الله تعالى يسألهم عن عباده ـ وهو أعلم بهم ـ فيقولون: أَتيناك من عند عبادك يُهلِّلونك ويُكِّبرونك ويَحمدونك، ويُمجِّدونك، فيقول ـ عز وجل ـ: وهل رأوني؟ فيقولون: لا يا رب، ما رأوك، فيقول ـ عز وجل ـ: كيف لو رأوني؟ فيقولون: لو رأوك لكانوا لك أشد تمجيدًا، قالوا: يا رب، ويسألونك جنتك، فيقول: هل رأوها؟ فيقولون: لا، وعِزتِك ما رأوها، فيقول: فكيف لو رأوها؟! فيقولون: لو رأوها لكانوا لها أشد طلبًا، قالوا: ويستغيثون بك من النار، فيقول ـ عز وجل ـ: وهل رأوها؟! فيقولون: لا، وعزتِك ما رأوها! فيقول: فكيف لو رأوها؟! فيقولون: لو رأوها لكانوا أشد منها هربًا، فيقول: إني أشهدكم أني قد غفرتُ لهم، وأعطيتُهم ما سألوا، وأعذتُهم مما استعاذوا”.

والقرآن والسنة مملوءان من الثناء على عباده ـ تعالى ـ وأوليائه بسؤال الجنة ودرجاتها، والاستعاذة من النار والخوف منها.
وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأصحابه: “استعيذوا بالله من النار” وقال لمن سأله مُرافقته في الجنة: “أَعِنِّي على نفسك بكثرة السجود”.
قالوا: والعمل على طلب الجنة والنجاة من النار، مقصود الشارع من أمته؛ ليكونا دائمًا على ذكر منهم، فلا ينسونهما؛ ولأن الإيمان بهما شرط في النجاة، والعمل على حصول الجنة والنجاة من النار، فهو مَحْضُ الإيمان.
وقد حَضَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصحابه وأمته على طلب الجنة، فوَصَفها وجَلاَّهَا لهم ليَخطُبوها، وقال: “ألا مُشَمِّرٌ للجنة؟ فإنها ـ ورب الكعبة ـ نور يتلألأ، وريحانة تَهتز، وزوجة حسناء، وفاكهة نضيجة، وقَصر مَشيد، ونَهر مُطَّرِد.” الحديث، فقال الصحابة: يا رسول الله .. نحن المشمرون لها، فقال: “قولوا: إن شاء الله”.
ولو ذهبنا نذكر ما في السنة من قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: “مَن عمل كذا وكذا أَدخله الله الجنة” تحريضًا على عَمله لها، وأن تكون هي الباعثة على العمل، لطال ذلك جدًّا، وذلك في جميع الأعمال.

فكيف يكون العمل لأجل الثواب وخوف العقاب معلولاً، والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُحرِّض عليه؟! قالوا: وأيضًا، فالله ـ سبحانه ـ يُحبُّ من عباده أن يَسألوه جنته، ويَستعيذوا به من ناره؛ فإنه يحب أن يُسأَل، ومن لم يسأله يغضب عليه، وأعظم ما سُئلَ “الجنة”، وأعظم ما استُعِيذ به من “النار”.
قالوا: وإذا خلا القلب من ملاحظة الجنة والنار، ورجاء هذه، والهرب من هذه، فَتُرتْ عزائمه، وضَعُفتْ هِمَّتُه، ووهَى باعثُه، وكلما كان أشد طلبًا للجنة وعملاً لها، كان الباعث له أقوى، والهِمَّة أشد، والسعي أَتَمُّ، وهذا أمر معلوم بالذوق.
قالوا: ولو لم يكن هذا مطلوبًا للشارع، لمَا وَصفَ الجنة للعباد، وزَيَّنها لهم، وعَرَضها عليهم، وأخبرهم عن تفاصيل ما تصل إليه عقولهم منها، وما عداه أخبرهم به لهم إليها، وحثًّا لهم على أن يَسعوا لها سعيها (انظر مدارج السالكين لابن القيم جـ2 ص 57ـ79، مطبعة السنة المحمدية).

على أن الإمام ابن القيم وقف موقفًا وسطًا بين الصوفية وبين من رد عليهم وخطَّأَهم من علماء الأمة، فقال ـ بعد أن حكى قول أولئك ورد هؤلاء: “والتحقيق أن يُقال: الجنة ليست اسمًا لمجرد الأشجار والفواكه، والطعام والشراب، والحور العين، والأنهار والقصور.
وأكثر الناس يَغلَطُون في مُسمَّى الجنة؛ فإنَّ الجنة اسم لدار النعيم المُطلَق الكامل، ومِن أعظم نعيم الجنة: التمتُّع بالنظر إلي وجه الله الكريم، وسماع كلامه، وقرة العين بالقرب منه وبرضوانه، فلا نسبةَ للذَّةِ ما فيها من المأكول والمشروب والملبوس والصور إلي هذه اللذة أبدًا، فأيسَرُ يَسيرٍ من رضوانه، أكبر من الجنان وما فيها من ذلك، كما قال ـ تعالى ـ: “ورِضوانٌ مِنَ اللهِ أكبرُ” (التوبة: 72)، وأتى به مُنَكَّرًا في سياق الإثبات، أيْ: أيْ شيء كان من رضاه عن عَبْدِه فهو أكبر من الجنة.

قليل منك يكفيني، ولكنَّ قليلك لا يُقال له قليل، وفي الحديث الصحيح ـ حديث الرؤية ـ”فوالله ما أعطاهم الله شيئًا أَحَبَّ إليهم من النظر إلي وجهه”، وفي حديث آخر: إنه ـ سبحانه ـ إذا تَجلَّى لهم، ورَأوا وجهه عَيانًا، نَسوا ما هم فيه من النعيم، وذُهلوا عنه ولم يَلتفتوا إليه”.
قال ابن القيم: ولا ريب أن الأمر هكذا، وهو أَجَلُّ مما يَخطُر بالبال، أو يدور في الخيال، ولا سِيَّمَا عند فوز المُحِبِّين هناك بمَعيَّة المَحبة؛ فإن المرء مع من أحب، فأي نعيم، وأي لذة، وأي قُرَّةِ عين، وأي فوز، يُداني نعيم تلك المَعيَّة ولذتَها وقرة العين بها؟
وهذا والله هو العلم الذي شَمَّرَ إليه المُحِبُّون، واللواء الذي أَمَّهُ العارفون، وهو رُوح مُسمَّى الجنة وحياتها، وبه طابتْ الجنة، وعليه قامتْ. فكيف يقُال: لا يُعبَد الله، طلبًا لجنته، ولا خوفًا من ناره؟
وكذلك النار أعاذنا الله منها؛ فإن لأربابها من عذاب الحجاب عن الله وإهانته، وغضبه وسُخْطه، والبعد عنه، أعظم من التهاب النار في أجسامهم.
فمطلوب الأنبياء والمرسلين والصديقين والشهداء والصالحين هو: الجنة، ومهربهم: من النار” (مدارج السالكين جـ2 ص 80 ـ 81).أ هـ