الجهر بالبسملة، ودعاء القنوت سنة مؤكدة عند الإمام الشافعي رضي الله عنه، فإذا صلى مأموم خلف إمام يجهر بالبسملة ويقنت في صلاة الصبح فصلاته صحيحة أيا كان مذهبه، وعلى الإمام أن يراعي ظروف من يصلي خلفه، فإن وجد أكثرهم لا يريدون ذلك فيمكنه النزول على رغبتهم، وصلاته صحيحة أيضا وعلى المسلمين جميعا أن ينشغلوا بالأهم وألا يجعلوا للشيطان عليهم سبيلا،فيبث بينهم العداوة ليفسد عليهم دينهم وآخرتهم.
يقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي:
رغم أني أرجح مذهب الحنابلة في المسألتين ، لأدلة لا مجال لذكرها هنا . أرى أن حدة الاختلاف على مثل هذه الأمور الاجتهادية لا تجوز . لأن الخلاف في مثل هذه القضايا يدور بين الجائز والأفضل، لا بين الجائر والممنوع، ولكل رأي فيها دليل ووجهة.

ولقد رووا عن الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه صلى الصبح بغير قنوت عندما زار بغداد، بلد الإمام أبي حنيفة وأصحابه، مراعاة لهم . وهو لون من أدب الأكابر حتى مع الموتى، ونظرتهم الواسعة السمحة إلى آراء المخالفين.
أما تعصب كل ذي مذهب لمذهبه، وإنكاره على مخالفيه في مثل هذه المسائل الاجتهادية، فليس هذا من شأن أهل العلم والتحقيق، ولا من أخلاق سلف هذه الأمة.
وإنما هو من شأن أهل الجهل والعصبية . ولا غرو إذا أنكره أكابر العلماء وأدانوه وخاصة من الحنابلة.

قال العلامة ابن الجوزي – وهو حنبلي – في كتاب ” السر المصون “: ” رأيت جماعة من المنتسبين إلى العلم يعملون عمل العوام . فإذا صلى الحنبلي في مسجد شافعي تعصب الشافعية، وإذا صلى الشافعي في مسجد حنبلي وجهر بالبسملة تعصب الحنابلة . وهذه مسألة اجتهادية ” والعصبية فيها مجرد أهواء يمنع عنها العلم “.

وقال في شرح غاية المنتهى: ” من أنكر شيئًا من مسائل الاجتهاد، فلجهله بمقام المجتهدين وعدم علمه بأنهم أسهروا أجفانهم، وبذلوا جهدهم ونفائس أوقاتهم في طلب الحق، وهم مأجورون لا محالة أخطأوا أو أصابوا، ومتبعهم ناج، لأن الله شرع لكل منهم ما أداه إليه اجتهاده، وجعله شرعًا مقررًا في نفس الأمر.

كما جعل الحل في الميتة للمضطر، وتحريمها على المختار، حكمين ثابتين في نفس الأمر للفريقين بالإجماع، فأي شيء غلب على ظن المجتهد، فهو حكم الله في حقه وحق من قلده “.

ونقل عن ابن تيمية في الفتاوى المصرية قوله مراعاة الائتلاف هي الحق، فيجهر بالبسملة أحيانًا لمصلحة راجحة، ويسوغ ترك الأفضل لتأليف القلوب، كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم بناء البيت من خشية تنفيرهم.

نص الأئمة كأحمد على ذلك في البسملة ووصل الوتر وغيره مما فيه العدول من الأفضل إلى الجائز، مراعاة للائتلاف أو لتعريف السنة، أو أمثال ذلك، .

ويشير بترك بناء البيت إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه لعائشة ” لولا قومك حديثو عهد بجاهلية، لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم “. (رواه البخاري ).

وهذا العلامة ابن القيم يتحدث في ” زاد المعاد ” عن القنوت في صلاة الصبح، بين من أنكره مطلقًا – في النوازل وغيرها – واعتبره بدعة، وبين من استحبه مطلقًا في النوازل وغيرها، ويرجح أن هديه صلى الله عليه وسلم هو القنوت عند النوازل، كما دلت عليه الأحاديث، وأن هذا ما أخذ به فقهاء الحديث، فهم يقنتون حيث قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتركونه حيث تركه فيقتدون به في فعله وتركه، ويقولون: فعله سنة، وتركه سنة . مع هذا فلا ينكرون على من داوم عليه، ولا يكرهون فعله، ولا يرونه بدعة، ولا فاعله مخالفًا للسنة، كما لا ينكرون على من أنكره عند النوازل …إلخ، بل من قنت فقد أحسن ومن تركه فقد أحسن.

قال: وركن الاعتدال (أي من الركوع) محل للدعاء والثناء، وقد جمعهما النبي صلى الله عليه وسلم فيه . ودعاء القنوت ثناء ودعاء فهو أولي بهذا المحل . وإذا جهر به الإمام أحيانًا ليعلم المأمومين فلا بأس بذلك.

فقد جهر عمر بالاستفتاح ليعلم المأمومين، وجهر ابن عباس بقراءة الفاتحة في صلاة الجنازة ليعلمهم أنها سنة . ومن هذا أيضًا جهر الإمام بالتأمين.
” وهذا من الاختلاف المباح، الذي لا يعنف فيه من فعله ولا من تركه . وهذا كرفع اليدين في الصلاة وتركه، وكالخلاف في أنواع التشهدات، وأنواع الآذان والإقامة، وأنواع النسك (يعني الحج) من الإفراد والقران والتمتع.

” وليس مقصدنا إلا ذكر هديه صلى الله عليه وسلم فإنه قبلة القصد، وإليه التوجه في هذا الكتاب، وعليه مقدار التفتيش والطلب . وهذا شيء والجائز الذي لا ينكر فعله وتركه شيء . فنحن لم نتعرض في هذا الكتاب لما يجوز، ولما لا يجوز، وإنما مقصودنا فيه هدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يختاره لنفسه، فإنه أكمل الهدي وأفضله . فإذا قلنا: لم يكن من هديه المداومة على القنوت في الفجر ولا الجهر بالبسملة، لم يدل ذلك على كراهية غيره، ولا أنه بدعة ولكن هديه أكمل الهدي وأفضله “. (زاد المعاد ج 1ص 144) ا. هـ.

وأكثر من ذلك أن للمأموم أن يصلي وراء إمامه، وإن رآه يفعل ما ينقض الوضوء، أو يبطل الصلاة في نظره هو – أي المأموم – مادام هذا سائغًا في مذهب الإمام.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

المسلمون متفقون على جواز صلاة بعضهم خلف بعض، كما كان الصحابة والتابعون ومن بعدهم من الأئمة الأربعة، يصلي بعضهم خلف بعض، ومن أنكر ذلك فهو مبتدع ضال مخالف للكتاب والسنة وإجماع المسلمين “.

وقد كان في الصحابة والتابعين ومن بعدهم من يقرأ بالبسملة، ومنهم من لا يقرأ بها، ومع هذا، كان بعضهم يصلي خلف بعض، مثلما كان أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وغيرهم يصلون خلف أئمة أهل المدينة من المالكية، وإن كانوا لا يقرؤون بالبسملة لا سرًا ولا جهرًا .

” وصلى أبو يوسف خلف الرشيد وقد احتجم، وأفتاه مالك :لا يتوضأ، فصلى خلفه أبو يوسف ولم يُعد “.

” وكان أحمد بن حنبل يرى الوضوء من الحجامة والرعاف. فقيل له: فإن كان إمامي قد خرج منه الدم ولم يتوضأ، أصلي خلفه ؟ فقال: كيف لا تصلي خلف سعيد بن المسيب ومالك ؟ قال: ” وفي هذه المسألة صورتان “:
إحداهما: ألا يعرف المأموم أن إمامه فعل ما يبطل صلاته، فهنا يصلي المأموم خلفه باتفاق السلف والأئمة الأربعة وغيرهم، وليس في هذا خلاف متقدم.

الثانية: تيقن المأموم أن الإمام فعل ما لا يسوغ عنده، مثل أن يمس ذكره، أو النساء لشهوة، أو يحتجم أو يفصد، أو يتقيأ، ثم يصلي بلا وضوء – فهذه فيها نزاع مشهور . وصحة صلاة المأموم هو قول جمهور السلف، وهو مذهب مالك، وهو قول آخر في مذهب الشافعي وأبي حنيفة . وأكثر نصوص أحمد على هذا وهذا هو الصواب.

بعد هذا البيان نستطيع أن نقول لكل إمام إنك لو تنازلت عن مذهبك في الجهر بالبسملة وقنوت الفجر من أجل الأكثرية التي تصلي خلفك من الحنابلة فلا جناح عليك .

وكذلك نقول لجماعة المأمومين خلفه من الحنابلة: إنكم إذا صليتم خلف إمام يخالفكم في هاتين المسألتين أو غيرهما، فلا حرج عليكم وقد نقلت عن أئمة الحنابلة خاصة ابن الجوزي وابن تيمية وابن القيم، ما يريح الضمائر ويطمئن الخواطر .