إن المتتبع لنصوص القرآن والسنة يجدها تأمر بالجد والاجتهاد في تحصيل ما أمر الله بتحصيله من علوم الدنيا والآخرة، ولم يؤمر المسلمون بالقعود عن العمل، وانتظار المعجزات، بل على الإنسان أن يأخذ بالأسباب حتى لو أيقن ببوادر القيامة، وانتهاء الدنيا، وذلك لأن قيمة العمل إنما تستمد قيمتها عند المسلمين من أن الله هو الذي أمر بها، ووعد بالأجر عليها، فالناس عند الله أجراء يعملون ليحصلوا على ما وعدوا به، وحسب الأجير أن يعمل كما أمره سيده.

إن ما يشاع حول قصة المهدي عن ظهوره، وعلاماته ، والرؤى المتعلقة به ليس له أصل وإنما هي أشياء ، لا علاقة لها بالواقع ، ولا تعدو أن تكون إشاعات مُبطلة ، أو تمنيات من بعض النفوس اليائسة المُحْبَطَة ، وقد دعانا هذا الموضوع إلى مراجعة كلمة الانتظار في القرآن الكريم . ونعتقد أن هذا مسلكٌ حسن ، أن نراجع كتاب الله تعالى ، الذي فيه الهدى والنور كلما وقعت واقعة من مثل هذه القضايا ، أو تداعت إلى النفوس ، أو ظهرت ظاهرة تحتاج إلى علاج .. فنظرنا في الآيات التي ذُكر فيها لفظ : الانتظار ، أو ما يماثله مثل: التربص ، ونحوها ؛ فوجدنا أن الآيات التي تدور في هذا المعنى تنقسم إلى ثلاثة أقسام:-

القسم الأول :- آيات جاءت في الوعيد بانتظار العقوبة للكافرين في الدار الآخرة:
فيقول لهم النبي – صلى الله عليه وسلم – : ( انتظروا ) أو مـا أشبه ذلك ،كما في قوله تعالـى في سورة السجدة : “وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ” (السجدة : 28-29) والمقصود بالفتح هنا – والله أعلم – يوم القيامة ؛ بدليل قوله : “لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُون * فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ” (السجدة: من الآية 29-30) أي : انتظر نهاية الأمر ، وما وُعدوا به من البعث ، والجزاء ، والحساب ، وهم ينتظرون هذا الأمر أيضاً .ومثله قوله تعالى : ” يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرا ً” (الأنعام: من الآية158) ، وقد صح تفسير هذه الآية بأنه : طلوع الشمس من مغربها ؛ إذ مع طلوعها لا ينفع نفساً إيمانها .وقد يصح أن نقول : إن هذا نوع من آيات الله ، ولذلك قال : ” بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ” (الأنعام: من الآية158) لكن هناك – أيضاً – آيات لله -سبحانه وتعالى – أخرى ، مثل : الغرغرة ، فإن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يُغرغِرْ .

إذاً ينتظرون الساعة الكبرى التي إذا ظهرت علاماتها الواضحة الكبيرة ، كطلوع الشمس من مغربها ؛ لا ينفع نفساً إيمانها .أو ينتظرون القيامة الصغرى التي هي موتهم ؛ فإن الإنسان إذا مات قامت قيامته والعلامات المباشرة للموت هي الغرغرة ، ومشاهدة الإنسان للملائكة ؛ وهم ينـزلون لقبض روحه ، فحينئذٍ لا ينفع نفساً إيمانها أيضاً .ولذلك نجد أن الآية دعت إلى العمل ، وإلى الإيمان ، وإلى الإصلاح قبل أن يحال بين الإنسان وبينه بالقيامة الكبرى ، أو الصغرى ؛ لأن قوله : “لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً ” (الأنعام: من الآية158) هو: تحضيض ، وحث على العمل ، على الإيمان ، على أن تكسب خيراً ، قبل أن تصل إلى حالٍ لا تتمكن فيها من ذلك .فالانتظار – هنا – ليس معناه أن تضع خدك على يدك ، تنتظر شيئاً وتترقبه ؛ بل معناه أن تسارع ، وكأنك تسابق شيئاً تخشى أن يقع .

القسم الثاني: انتظار الوعيد بعقوبات في الدنيا:

وبيان ذلك أن الكفار – أحياناً – قد يستعجلون العقاب ، على سبيل استبعاده والأمن منه ، كما في قصة هود – عليه السلام – فإن قومه قالوا له : ( أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ* قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ” – إلى قوله – ” فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِين َ” ( الأعراف:71) ، فهم طلبوا العقوبة ، واستعجلوها فقال لهم : ( فَانْتَظِرُوا) ، وهكذا في سـورة يـونس : ” فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِم ْ” (يـونس: مـن الآية102) أي بالعقوبات ، والمثُلات ، والنوازل ، والمصائب ؛ ولهذا يقول : “قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْْتَظِرِينَ” (يونس: من الآية102) أيضاً في سورة هود : “وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ*وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ” (هود:122). فانظر كيف جمع بين العمل ، والانتظار ، وتـحدَّى الكافرين “اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ* وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ” يعني : منتظرون مـا يحكم الله تعالى به بيننا وبينكـم ؛ ولهذا قال : “فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّه”(الأعراف: من الآية87) ( قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِين َ) ( الطور:31) وهكذا يكون الانتظار هنا لعقوبات الله تعالى التي تحل بالكافرين .

القسم الثالث :انتظار آية من آيات الله تعالى:

فالكفار كانوا يطلبون من النبي -عليه الصلاة والسلام – أن يأتيهـم بآية من عند الله ، فقد طلبوا أن يقلب لهـم الصفا ذهباً ، أو أن يُسقط عليهم من السماء كِسفاً ، ونحو ذلك من المعجزات ، فكان الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – يقول لهم : “إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ” كما أمره الله – عز وجل – ، وكما في سورة يونس : “وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِين َ) (يونس:20) فنلاحظ في هذه الأنماط الثلاثة من الآيات فوائد مهمة جداً: –
الأولى : تفويض الغيب إلى الله -سبحانه وتعالى – في الأمور التي ينتظرها الإنسان ؛ ولهذا قال : ( فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّه ) فنـزول عقوبة مــن الله – سبحـانه وتعالى – ، وقيام الساعة من غيب الله الذي لا يظهر عليه أحداً ؛ قال سبحانه: ” إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى” (طـه:15) فالغيب لله – عز وجل -، ولا يظهر الله على غيبه أحـداً “إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ” (الجـن: من الآية27).

وهناك أمـور من الغيب لا يعلمها إلا الله – عز وجل -فلا يعلمها مَلَك مقرَّب ، ولا نبي مرسل ؛ ولذلك فإن علم الغيب مما استأثر الله به، ولا يحل لأحد غير مَن أذن الله لـه أن يتقحَّمهُ بأيَّ وسيلة مـن الوسائل ، وقد يجد الإنسان – أحيانـاً – شعوراً نفسياً ، أو أمراً ينقدح في قلبه وقد يُلهم شيئاً ، فيظن ظناً لكـنه لا يجزم بشيء ، وقد يرى رؤيا خيرٍ للمسلمين ، أو رؤيا شرٍ لأعدائهم ، لكن التعبير يظل ظناً كما في سورة يوسف عليه السلام : “وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا” (يوسف: من الآية42) ، فلم يجزم وهو نبي يأتيه الوحي ؛ ولم يقطع في تفسير الرؤيا بشيء ، وإنما ظن ظناً .وكذلك الرسول – صلى الله عليه وسلم – لما حدَّثه رجل برؤيا رآها ؛ فعبرها له أبو بكر ثم قال :فأخبرني يا رسول الله – بأبي أنت – أصبت أم أخطأت ؟ قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : (أصبتَ بعضاً وأخطأتَ بعضاً ) .قال : فوالله لتحدثني بالذي أخطأت ؟قال : ( لا تقسم ) .البخاري ( 7046) مسلم (2269) .فهذه : التوقعات ، والاحتمالات ، والظنون ، والآمال ..باب واسع ؛ لكن لا تعطي الإنسان يقيناً بشيء من علم الغيب ؛ ولهذا قال : ” فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّه ” (يونس: من الآية20) لأن الانتظار يتعلق بأمر مستقبل: .

الثانية : أن الله – سبحانه وتعالى – أخرج البشر حتى الأنبياء من أي أمر يتعلق بالعقاب الرباني الذي ينتظر العباد ؛ ولذا فإن الله – عز وجل – يخاطب رسوله -صلى الله عليه وسلم – بقوله : ” لَيْسَ لَكَ مِنَ الأ َمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ” (آل عمران:128) “وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُم” (يونس: من الآية46) ففيه إشارة إلى : أن هذه من أمور الألوهية ؛ التي ينبغي للعبد أن يذعن لها ، ويستسلم لقضاء الله ، وقدره ، وأمره ، وإرادته ، فلا يقحم نفسه في شيء لا يخصه ؛ ولهذا جاء في هذه المواضع الإشارة إلى من طلبوا الآيات أن يجابوا : بأن هذا أمر من أمر الله – سبحانه وتعالى – وأنه لم يَكِلْه إلى أحدٍ من خلقه .

الثالثة : الحث على العمل ، والإصلاح ، والمسارعة ، وأن يسابق الإنسان قيامته الصغرى ، أو قيامة الناس الكبرى ، ليس بالانتظار ، وإنما بالعمل الجاد المثمر ، المبني على الأسباب الشرعية ، والأسباب الطبعية التي وضعها الله – سبحانه وتعالى-.

إننا لا نجد نصاً في القرآن الكريم ، ولا في أحاديث الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – يضعنا على قائمة الانتظار والترقب ؛ بل حتى الساعة نفسها ، فكل مؤمن يؤمن بها ، ويعلم أنها قائمة ، وقادمة لا ريب فيها ، ومع ذلك فإننا لم نؤمر بترقبها ، أو استعجالها ؛ ولهذا روى الإمام أحمد في مسنده (12981) بسند صحيح عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – : أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : “إن قامت الساعة ، وبيد أحدكم فسيلة -وهي النخلة الصغيرة – فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل ” .إنه لم يقل : وأحدكم يصلي في ركعة ، فليكملها ، وإنما قال:”بيده فسيلة” ؛ فقد يتبادر إلى الأذهـان ، : أن هذا أمـر دنيوي ، ومع هذا قال – صلى الله عليه وسلم – : ( فـإن استطاع ألا يقوم ) أي من مكانه .

فالعمل الدنيوي المباح فيه أجر إذا كان بنيَّة صالحة ، فكيف إذا كان هذا العمل فيه خير للعباد وفيه مصلحة لهم في دنياهم ؟! كأن يُغيث ملهوفهم ، أو يساعد ضعيفهم ، أو يعطف على صغيرهم ، أو يرفق بهم، أو يعين محتاجهم ، أو يطعم جائعهم ، أو يكسو عاريهم ، فكيف إذا كان هذا العمل فيه مصلحة دينية ـ أيضاً ـ للعباد ؟! بأن يهدي الضالين ، والكافرين، أو يرشد المسلمين المنحرفين ، أو يعلم الجاهلين ، أو يجمع المتفرقين ، أو يصلح الفاسدين فكم في هذا من الأجر والثواب .بل إن في بعض روايات الحديث “إذا سمعت بالدجال ، و أنت على ودية تغرسها فلا تعجل أن تصلحها ، فإن للناس بعد ذلك عيشا ” الأدب المفرد للبخاري (480) .

فبعض النـاس يترقبون مثل هـذه الأشياء فيولِّد عندهم هذا الترقب نوعاً من الكسل ، والخمول، والانتظار الذي يجعل الإنسان يشعر أنه أمام صمت مطبق وقعود مخذل .إن المسألة مسألة عمل جاد ؛ وقيمة العمل من أعظم القيم التي جاء الإسلام لتقريرها ، وترسيخها في النفوس .

وفي صحيح مسلم ذكر لحادثة لها دلالتها المهمة في هذا الباب فقد أخرج في صحيحه ( 2899) عن يسير بن جابر قال : هاجت ريح حمراء بالكوفة ، فجاء رجل فقال : يا عبد الله بن مسعود جاءت الساعة قال : فقعد وكان متكئاً ـ وهذا علامة اهتمام ، وربما يكون علامة غضب وإنكار أيضاً ـ فقال : إن الساعة لا تقوم حتى لا يقسم ميراث ولا يفرح بغنيمة ، ثم قال: بيده هكذا ونحاها نحو الشام ، ثم ذكر بعض الملاحم الكبرى التي تقع بين يدي الساعة ، والتي هي من أشراطها. لقد أنكر ابن مسعود هذا الهلع وسوء التقدير للأمر ؛ لأنه العالم الحاذق الفَهِم اللَّقن الذي تلقى عـن الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – وبيَّن له هذا المعنى، وأن الساعة لا تقوم حتى تقع هذه الأشراط التي أخبر بها الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم .