روى ابن ماجة والحاكم وصحَّحه عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: “اللهم أحيني مسكينًا، وتوفَّني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين” ورواه الترمذي عن أنس وقال: حديث غريب، أي رواه راوٍ واحد فقط.

وجاء في حديث للترمذي وحسَّنه قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: “اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين. وروى البخاري ومسلم أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: “قمت على باب الجنة فكان عامة من دخلها المساكين، وأصحاب الجَدِّ محبوسون” والجَدُّ هو الغنى.

هذه الأحاديث تدل على حب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للمساكين، ويعلل ذلك بأمور:

أولها: مشاركتهم وجدانيًا وتيسير وقع الفقر عليهم، حتى لا يدخل قلوبهم شك أو تطلُّع إلى الدنيا وافتتان بها عن الآخرة، وبخاصة أن أكثر من آمنوا به من المساكين. وأكثر من قاوموا الدعوة كانوا من الأغنياء الجبارين . وفي ذلك دعوة الأغنياء للعطف عليهم.

ثانيها: لفت أنظار الأغنياء إلى عدم الفتنة بالمال. وليس ذلك نهيًا عن جمع المال وإنفاقه في حِلِّه. ففي الحديث الذي رواه أحمد بسند جيد عن عمرو بن العاص: “نِعْمَ المال الصالح للعبد الصالح”.

ثالثها: أن المساكين أقل الناس حسابًا إذا اتقوا ربهم في أعمالهم؛ لأنهم لا يكونون كالأغنياء الذين يحاسبهم الله على نعمه كيف جحدوها وكيف أنفقوها. والمساكين من أجل هذا سيسبقون إلى دخول الجنة، لعدم طول حسابهم على ما في أيديهم.

هذا، وليس المراد من هذه الأحاديث دعوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى المسْكنة والفقر الماديين، فهناك فرق بين شعور العطف والرحمة على المساكين، والدعوة إلى الفقر، كيف وهو ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يحب الفقر الذي تُذَلُّ به النفس ويُمْرِض الجسم ويُعَوق عن أداء الواجبات ويُغْرى بالسوء؟ كما كان يستعيذ من الغنى الذي يُبطر ويَصرف عن الخير ويدعو إلى الفساد. لقد استعاذ من الكفر والفقر كما رواه أبو داود وقال: “اللهم اقْضِ عنَّا الدَّيْن وأغْننا من الفقر” كما رواه مسلم، وقال أيضا: “اللهم اكْفِني بِحَلَالِكَ عن حرامك، وأغنني بفضلك عمَّن سواك” كما رواه التِّرْمذي وحسَّنه. وكثيرًا ما سأل ربَّه العَفَاف والغِنى. والغنى وإن كان يُقصد به غنى النفس فهو أيضًا يُقصد به غنى المال الذي يُعرف فيه حق الله، ويكون وسيلة للعفَّة عن الحرام.

وعزَّة المسلمين لا تتوقَّف على الغِنى المادِّيِّ فقط، فكم من أمم بلغت في الغنى الذِّرْوة فأهلَكَهَا الله لمعصيتها وبُخْلها وشرها.

ومقومات العزة الإسلامية في العصور الأولى كانت تعتمد على القوة في العقيدة والخلق، كما تعتمد على قوة المال، وكان تفوُّقُهم على الدول المجاورة لهم ليس بالمال ولكن بالدين. والدين لا يمنع من المال ما دام يوجَّه للخير.

لا يُقصد بهذه الأحاديث دعوة إلى المسكنة الذليلة، فإن العزة قد تكون مع رِقَّة الحال كعزة المسلمين الأُوَل، والذِّلة قد تكون مع كثرة المال كذلة اليهود بدناءة نفوسهم ورضاهم بالهوان في سبيل الحصول على المال.

ومع كل هذا لا ننسى أبدًا قول الله سبحانه (يا أيُّها الذينَ آمنوا لا تُحرِّموا طيباتِ ما أحلَّ اللهُ لكم ولا تعتدُوا إنَّ اللهَ لا يحبُّ المعتدينَ . وكُلُوا ممَّا رزقكُم اللهُ حلالاً طيبًا واتقُوا اللهَ الذِي أنتُم بِهِ مؤمنونَ) (سورة المائدة: 87 ـ 88)، وقوله (يا بَنِي آدمَ خُذُوا زينتَكم عندَ كُلِّ مسجدٍ، وكُلُوا واشربُوا ولا تُسرِفُوا، إنَّه لا يُحبُّ المسرفين. قُلْ مَن حرَّم زينةَ اللهِ التِي أَخرجَ لعبادِهِ والطيباتِ مِن الرزقِ) (سورة الأعراف: 31، 32).

أو لعلَّ النَّبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أراد بقوله هذا لمن يحبه أن يكون مِثْلَه في الزهد في الدنيا وعدم تعلق الآمال العَرِيضة بها، أو يَلفت نظره ألا يكون مثل بعض الفقراء الذين رغِبوا في الإسلام طمَعًا في خير يعطيه لهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كمَن نزل فيهم قوله تعالى (قالتِ الأعرابُ آمنَّا قُلْ لم تُؤمنوا ولكنْ قُولوا أسلمْنا ولمَّا يَدخلِ الإيمانُ في قلوبِكم) (سورة الحجرات: 14).