اختلف العلماء في الدَّم الذي يَنزل من الحامل هل هو دم حيض أم لا، فرأى أبو حنيفة ومِن قبْله عَطَاء والشَّعبي أنه ليس حيضًا ولا يأخذ حكمه، لقوله تعالى: (اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَي وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ) (سورة الرعد:8) على معنى أن الغَيْض هو انْقطاع دمِ الحَيْض أثناءَ الحَمْل، والازْدياد هو دم النفاس بعد الوضع، وهو رأي الإمام أحمد أيضًا.

ورأي مالك والشافعي في أحد قوليه أن الحامل تَحيض، وهو تأويل ابن عباس للآية بأنه حيْض الحُبالى، وكذلك روى عِكرمة ومجاهد، وهو قول عائشة وأنَّها كانَت تُفْتِي النِّساء الحَوَامل إذا حِضْنَ أن يتركْن الصلاة والصحابة إذ ذاك متوافرون، ولم يُنكر منهم أحد عليها، فصار كالإجماع قاله ابن القصَّار، وذكر القرطبي في تفسيره “ج9 ص286” حادثةً أيام عمر استَدل بها على أن الحامل تحيض، ثم قال: احتج المخالف ـ وهو أبو حنيفة ومن معه ـ بأن قال: لو كانت الحامل تَحيض وكان ما تَراه المرأة في الدَّم حيْضًا لما صحَّ استبْراء الأمَة بحيض، وهو إجماع ورُوى عن مالك في كتاب محمد: ما يَقتضي أنه ليس بحيض. انتهى.

وَجاء في فقه المذاهب الأربعة أن من شروط الحيض أن يكون الرَّحم خاليًا من الحمل، فما تراه الحامل من الدم يكون دم فساد، لكن المالكية والشافعية قالوا: إنه يكون دم حيض، إلا أن الشافعية قالوا: تعتبر مدة حيضها في الحمل كعادتها في غيره، أما المالكية فإنهم قالوا: إن رأت الحامل الدَّم بعد شهرين من حَملها إلى ستة أشْهر فإن مدة حَيْضها تُقدر بعشرين يومًا إن استمر الدم، وفى ستة أشهر إلى آخر الحمل تقدر بثلاثين يومًا، أما إذا رأت الدم في الشهر الأول أو الثاني من حَمْلها كانت كالمُعتادة، وفسَّروا ذلك بأن حَيْضها يقدَّر بثلاثة أيام زيادة على أكثر عادتها استِظْهارًا، فإن اعتادت خمسة أيام ثُمَّ تمادَى حَيْضُها مكثت ثمانية أيام، فإن استمر بها الدَّم في الحَيْضة الثالثة كانت عادتها ثمانية؛ لأن العادة تَثْبُت بمرَّة، فتمكث أحد عشر يومًا، فإن تَمادَى في الحيْضة الرابعة تمكث أربعة عشر يومًا، فإن تمادى بعد ذلك فلا تزيد على الخمسة عشر يومًا، ويكون الدم الخارج بعد الخمسة عشر، أو بعد الاستظهار بثلاثة أيام على أكثر العادة قبل الخمسة عشر يومًا ـ دم استحاضة. انتهى.

هذا هو الحكم في رأْي الفقهاء في الدَّم الذي ينزل على الحامل هل هو حيض أو لا؟ ولعل الطب له كلام في هذا الموضوع، يُمكن به التمييز بين دم الحيض والنزيف، بناءً على ما قيل: إنَّ دم الحيض إعدادٌ للرَّحم لاستقبال البُويضة المُلقَّحة فإن استقرَّت فيه يقال لا توجد فرصة لاستقبال بُويضة أخرى ليوجد حملان في الرَّحِم بينهما مدة، ولو وجدت بُويْضتان معًا كان الحمل معًا تَوْأَمًا، فهل يُمكن أن تَحِل بالرَّحم بُويضة ثم بعد فترة تَحِل بُويضة أخرى فيكون هناك حملان، أحدهما قبل الآخر؟ وقد يُولدان معًا أو يُوجد فاصل بينهما في الوضع، لعلَّ هناك جوابًا يُوضِّح ذلك عند المخْتصين.

هذا، وقد جاء في المغني لابن قدامه ” ج1 ص 375″ أن الحامل لا تَحيض، إلا أن تَرَاه قبل ولادتها بيومين أو ثلاثة فيكون دمَ نِفَاس، وهو مذهب أحمد وأبي حنيفة ورأي جمهور التابعين.

وقال مالك والشافعي: ما تَرَاه من الدَّم حيضٌ إذا أمكن؛ لأنه دمٌ صادف عادة فكان حيْضًا كغير الحامل، واستدلَّ لمذهب أحمد بالحديث” لا تُوطأ حامل حتى تَضَع ولا حائل ـ أي غير حامل ـ حتى تَسْتبرئَ بحيْضة” موجِّهًا ذلك بأنَّ وُجود الحيْض علامة على براءة الرَّحِم، فدلَّ على أنه لا يَجْتمع مع الحَمْل، وقال: إنَّ الحامل لا يعتادها الحَيْضُ غالبًا، فلم يَكن ما تراه فيه حَيْضًا كالآيِسَةِ، قال أحمد إنما يعرف النساء الحمل بانقطاع الدم، وحُمل رأي عائشة في أنه حيض على ما تراه الحامل من الدم قريبًا من ولادتها فهو نفاس لا تُصلِّي فيه.

ورَأْيِي أنَّ مَذْهب أبي حَنِيفةَ وأحمد أيسر في التَّطْبيق فلا يُعَد دمُ الحامل حيْضًا، إِلَّا ما يُرى قُبَيْل الوِلَادَةِ فيكون نِفاسًا لا تُصلِّى ولا تصوم فيه، ومذهب مالك فيه صعوبة بالصورة التي ذكرت في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة، ولا يَجب التعصُّب لرأي في الفروع ودين الله يسر.