مع التقدم العلمي ظهرت أشياء كثيرة تحتاج إلى بيان حُكْمِ الشرع فيها، منها التلقيح الصناعي، ونقل البُوَيْضَة إلى رَحِم امرأة أخرى، وتَجْمِيد النُّطْفة لِتُلَقَّح بها الزوجة بعد موت زوجها، وغير ذلك مما يَتَكَشَّف عنه العلم .
التلقيح الصناعي : يُقْصَد به وضْع ماء الرجل في رَحِم الأنثى، أو تَلْقيح البويضة بالنُّطفة بطريقة صناعية أي: بغير الاتصال الجنسي المباشر .
وبعيدًا عن بيان تاريخ هذه العملية، وردود الفعل التي أثارتها لدى المُتَدَيِّنين وغيرهم ( يمكن مراجعة الجزء الأول عن مراحل تكوين الأسرة من موسوعة : الأسرة تحت رعاية الإسلام ) وسنقتصر على بيان حكم الشرع فيها وخلاصته :
1 ـ التلقيح الصناعي إذا كان بين الزوج وزوجته فلا مانع منه شرعًا، وقد يكون وسيلة لإشْبَاع غَريزة الأُبوة والأمومة عندما تَحُول الظروف دون إنجاب الذُّرية بالطريقة المعتادة . أمَّا إن كان بغير ماء الزوج فهو حرامٌ، سواءٌ وافق عليه أم لم يُوَافِق؛ لأنَّ فيه صورةَ الزنى الذي تَخْتَلِط به الأنساب وتَضْعُف به الروابط، وتضيع الحقوق وتُزْرَع الأَحْقَاد ويَكْثُر النِّزاع، ولولا أنَّ صورة التلقيح تختلف إلى حد ما عن الصورة التي حدَّدها الفقهاء للزنى، لوجب فيها الحد .
أما ثبوت النسب به فهو صحيح إذا كان بين الزوجين، أمَّا إن كان بغير ماءِ الزوج فهو في حكم الزنى من حيث نِسْبَة المولود لأمه، أما بالنسبة إلى الزوج، فإن كان بغير عِلْمِه نُسِبَ إليه؛ لأنه وُلِد على فراشه تطبيقًا للحديث ” الولد للفِرَاش ” وإن كان بِعِلْمه فقيل: يُنْسَب إليه بحُكْم الفراش، وقيل لا يُنْسَب إليه إلا إذا أقَرَّ واعْتَرَف به، وقيل لا يُنْسَب أصلًا، وطريق نفيه يكون باللِّعان .
ونحن نميل إلى الرأي الأخير عقوبة للزوج الذي أقرَّ صورة الزنى بزوجته، فهو الدَّيوث الذي حرَّم الله عليه الجنة، وقطعًا لدابر الفساد، وسدًّا للذرائع ؛ لأنه قد يَجُر إلى إقرار الزنى الحقيقي بزوجته، بل قد يدعو هو بنفسه رجلًا ليزنى بها إذا أراد ذُرية، كما كان في الجاهلية مما يعرف بالاسْتِبْضَاع الذي حرمه الإسلام .
ويستوي في هذا الحكم تلقيح البُوَيْضَة مَبْدَئيًا في رحم المرأة، وتلقيحها في أنبوبة خارجية ثم إعادتها إلى الرَّحِم الذي أُخِذَت منه . وهو ما يُعْرَف بين الناس بطفل الأنابيب .
2 ـ نَقْل البُوَيْضَة، إذا أُخِذَت بُوَيْضَة مُلَقَّحة ووُضِعَت في رحِم امرأة أخرى غير صاحبة البُوَيْضَة ليَتِم نموها، إما لعدم استعداد الأولى للحَمْل، وإما لعُقْم الثانية عن إفراز البُوَيْضَة، وإما لسبب آخر، فذلك حرام قطعًا؛ لأننا قلنا: إن وضْعَ النُّطفة فقط في رَحِمِها من غير زوجها حرامٌ، فمن باب أوْلى يكون وضع النُّطفة والبُوَيْضَة حرامًا، وسيكون فيه نِزَاعٌ في نِسْبَة هذا المولود، هل يكون لصاحبي البويضة، أو لمَنْ حَمَلَته ووَضَعَته، وهو كولد الزنى في نسبته لأمه بالولادة، ولزوجها بحُكْم الفِراش على النحو المذكور في التلقيح الصناعي، وهل من المُمْكِن نِسْبَته لأبيه وأمه صاحبي البويضة، وتكون المرأة الوالدة كالمُرْضِع يُنْسَب إليها نِسْبَة الرضاعة؛ لأنه تَغَذَّى بدَمِها ؟ ذلك أمر يحتاج إلى نظر دقيق .
3 ـ أثيرت أخيرًا مسألة : هي تجميد نُطْفَةِ الزَّوج لتَبْقَى صالحةً للتَّلْقيح مدة طويلة، وبعد وفاته قامت زوْجته بتلقيح نفسها بها، فما حُكْم هذه العملية ؟
إن تمَّ التَّلْقِيح بعد انقضاء عِدَّة المرأة من وفاة زوجها، كان ذلك حرامًا بالاتفاق؛ لأنه صار أجنبيًا حيث يجوز لها الزواج، أما إن تمَّ قبل تمام العِدة فنرى أنَّها كالمُطَلَّقة طلاقًا بائنًا حيث لا يُمْكُنها الرجوع إلى زوْجها، وبالتالي لا يجوز هذا التَّلْقيح . ولو فُرِضَ أنه حَدَثَ يكون الولد ولدَ زني يُنْسَب إليها ولا يُنْسَب لصاحب النُّطفة، حيث لا يُوجد فِراش عند الوِلادة، ولا يُمكن اسْتِلْحَاقه من المَيت .