القرآن تحدَّث عن سيدنا داود ـ عليه السلام ـ بما يَتَناسب مع مَقام النبوة، واصفًا له بأنَّه أوَّاب رجَّاع إلى الله، آتاه اللهُ المُلْك والحِكْمة وفصل الخطاب، وألان له الحديد وعلَّمه منطق الطير، وعصمه كما عصم جميع الأنبياء مما يَخِلُّ بِقَدْرِهِ وَشَرَفِهِ .

وليس من المعقول أن يغتصب امرأة لا تحل له، أو يُفكر في حيلة يتخلص بها من زوجها ليتزوجها هو، إن هذه الحادثة يتنزَّه أن يتورَّط فيها واحدٌ من عامة الناس، فكيف بالمصطفَيْنَ الأخيار من رسل الله الذين بُعثوا للدعوة إلى القيم الأخلاقية العالية، وحاول المُغْرَمون بالغرائب، والناقلون عن أهل الكتاب دون تحوُّط لما يَنْقِلُون أن يَحْمِلُوا على تلك الحادثة قول الله تعالى: (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا المِحْرَابَ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالحَقِِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الخِطَابِ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلا الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيْلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ، يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيْفَةً فِي الأَرضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الهَوَى فِيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِيْنَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيْلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَومَ الحِسَاب) ( ص : 21 ـ 26 ) .

إنَّ ظاهر الآيات يدل على خصومة حقيقية بين فريقين في غنم مشتركة بينهما، وأن داود ـ عليه السلام ـ وقع في خطأ، استغفر ربه منه وخرَّ راكعًا ورجع إلى الله، كما أنَّ أَمْر الله لداود بالحكم بالحق وعدم اتباع الهوى قد يُفهَم منه أنَّه ظلَم في حكْمه ومال مع الهوى، فكيف يكون ذلك؟

إن الكلام في تفسير هذه الآيات كثير، وادَّعى بعض المفسرين أن ” النعجة ” هي المرأة، وأن القصَّة درْس لداود الذي طمَع في زوجة القائد ” أوريا ” ولم يَقْنَعْ بما عنده من النساء. وهو كلام يتنافى مع مقام الأنبياء.

ومن أحسن ما قيل في ذلك أن الخصومة حقيقية في شركة أغْنام، وأن المُتَخاصِمَيْنِ أرادا التحاكم إلى داود على عَجَل حتى يُحْسَم النزاع غير أن داود، وكان إذ ذاك في خَلْوته الخَاصة، يَعبد ربَّه كنظام وَضَعَه لنَفْسه في توْزيع أعماله بين الله والناس، ولم يَجِدْ الخَصْمان وسيلةً للوصول إليه إلا تسوُّر المحراب الذي يتعبَّد فيه، فظن داود أن مجيئهم في هذا الوقت وبهذه الصورة يُراد به شر، فَطَمْأَنَاهُ وطرحا أمامه الموضوع، وبدأ أحد الخَصمَيْن بتوجيه الاتهام إلى الطَّرف الآخر، فنطق داود بالحكم بإدانة صاحب الغنم الكثيرة قبل أن يُدلي بحجته، وهنا أحس داود أنه كان على غير صواب في ظنِّه أن هؤلاء يريدون به شرًّا، وأن الله امتحَنه بالخَوف منهم، فاستغفره مما حدَّث به نفسه، ومَنَّ الله عليه بقبول استغفاره، وأنزله عنده مُنْزَلًا كريمًا .

ثم نبَّهه إلى أنَّ مِمَّا يساعد على إصابة الحق والعدل في الحكم التأنِّي، حتى تسمع حُجَّة الطرفين معًا، وعدم التأثُّر بمظاهر الناس، والبعد بالعواطف عن التدخُّل في الحكم، فقد يكون المدِّعي مُخْطئًا وظاهره يُوحي بالصدق، كإخوة يوسف الذين رمَوْه في الجُب وجاءوا أباهم عشاءً يَبْكون مُدَّعين أن الذئب أكله.

إنَّ الذي وقع من داود ـ عليه السلام ـ هو ظنُّه أن الخَصمين أرادَا به سوءًا، فَنَدِمَ على هذا الظن واستغفر ربه، وهو ظنٌّ له ما يُبرِّره، والأنبياء ـ وإن كان ما وقع منه لا يُؤاخذ عليه ـ مقامهم يضعهم دائمًا في موضع حسَّاس، لا يُحبون أن يؤخذ عليهم ما هو في صورة ما يؤاخذ عليه. ونطقه بالحكم قبل سماع المدعي عليه ربما كان لأنه سكت ولم يتكلم، فكان سكوته إقرارًا بما نُسب إليه، وتوجيه الله له باتِّباع الحَق، وعدم المَيْل مع الهوى ـ على الرَّغْم من صواب حكمه ـ لا يدل على ظلمه أو ميله مع العواطف، فقد يكون توجيهًا بالاستمرار على اتباع الحق، كما قال سبحانه لنبيه محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ) ( سورة الأحزاب : 1 ) فلم يكن منه عصيان حتى يُؤمر بالتقوى.

وبعد، فإن مما نتأسَّى به في قصة داود ـ عليه السلام ـ الرجوع إلى الله في كل الأحوال، والصبر على ما يقوله أهلُ الباطل، وعدم الأَنَفَة من مُزاولة أي عمل لكسب عَيْش شريف، وأن الصوت الحسن نعمة من نعم الله، تَلِين به القلوب وتَرْتاح إليه الأعصاب، فلْيكن ترويحنا عن النفس بما شرع الله، وبما يُعطيها نقاءً وصفاءً واستقامةً، بعيدًا عما يُغضِب الله.