حين يقنن الفساد ويصبح إلفا ويأنس به الناس ساعتها يستشعر المسلم معنى غربة الدين التي أخبرنا عنها المعصوم صلى الله عليه وسلم “بدأ الإسلام غريبا ثم يعود كما بدأ فطوبى للغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس” وهذه الغربة يستتشعرها المؤمن حين يفرض عليه الواقع أن يتعامل مع الناس، وساعتها يشعر المسلم بالحرج فهو إن أطاع الناس وفعل ما يرضيهم أغضب ربه وإن ألزم نفسه بمنهج الله وأطاع الله أغضب الناس.

والمطلوب من المسلم أن يقدم رضا الله تعالى على كل ما سواه ففي الحديث قال صلى الله عليه وسلم “من أسخط الله في رضى الناس سخط الله عليه وأسخط عليه من أرضاه في سخطه ومن أرضى الله في سخط الناس رضي الله تعالى عنه وأرضى عنه من أسخطه في رضاه حتى يزينه ويزين قوله وعمله في عينه”.

ولذلك فالواجب على المسلم ألا يتهاون وأن يكون وقافا عند حرمات الله حتى وإن كان ذلك سيجلب عليه سخط الناس، ولكن هذه الغربة ليس معناها أن ينزوي المسلم على نفسه بل عليه أن يصبر على أذى الناس لأن انغلاقه على نفسه معناه تقاعسه عن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فإذا وجد المسلم فيما دعي إليه منكرا متفقا عليه بين العلماء فعليه أن ينكر أو يذهب ولا يكفيه التزامه في نفسه، وأما الأمور المختلف فيها من نحو الغناء والموسيقى البعيدين عن الفحش فيرخص فيهما، خاصة في الحالات التي يخشى  فيها تقطع الصلات الواجب وصلها، على أن  الزوجة لا يجب عليها وصل أقرباء زوجها كما يجب عليها وصل رحمها ، ولكنه من تمام البر بالزوج.

قال الإمام الشوكاني:-

روى أحمد في كتاب الورع أن ابن عمر دعا أبا أيوب فرأى في البيت سترا فقال : غلبنا عليه النساء , فقال : من كنت أخشى عليه فلم أكن أخشى عليك , والله لا أطعم لكم طعاما فرجع “.
وأخرج أحمد في كتاب الزهد من طريق عبد الله بن عتبة قال : ” دخل ابن عمر بيت رجل دعاه إلى عرس فإذا بيته قد ستر بالكرور , فقال ابن عمر : يا فلان متى تحولت الكعبة في بيتك, فقال لنفر معه من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم : ليهتك كل رجل ما يليه “.
وأحاديث الباب وآثاره فيها دليل على أنه لا يجوز الدخول في الدعوة يكون فيها منكر مما نهى الله ورسوله لما في ذلك من إظهار الرضا بها. قال الحافظ في الفتح : وحاصله إن كان هناك محرم وقدر على إزالته فأزاله فلا بأس, وإن لم يقدر فليرجع , وإن كان مما يكره كراهة تنزيه فلا يخفي الورع. وقال: وقد فصل العلماء في ذلك , فإن كان هناك لهو مما اختلف فيه فيجوز الحضور , والأولى الترك, وإن كان هناك حرام كشرب الخمر نظر , فإن كان المدعو ممن إذا حضر رفع لأجله فليحضر , وإن لم يكن كذلك ففيه للشافعية وجهان : أحدهما : يحضر وينكر بحسب قدرته وإن كان الأولى أن لا يحضر . قال البيهقي : وهو ظاهر نص الشافعي وعليه جرى العراقيون من أصحابه.
وقال صاحب الهداية من الحنفية: لا بأس أن يقعد ويأكل إذا لم يكن يقتدى به فإن كان، ولم يقدر على منعهم فليخرج لما فيه من شين الدين وفتح باب المعصية .
وحكي عن أبي حنيفة أنه قعد , وهو محمول على أنه وقع له ذلك قبل أن يصير مقتدى به.

قال: هذا كله بعد الحضور, فإن علم قبله لم يلزمه الإجابة. والوجه الثاني للشافعية: تحريم الحضور لأنه كالرضا بالمنكر, وصححه المروزي فإن لم يعلم حتى حضر فلينههم, فإن لم ينتهوا فليخرج إلا إن خاف على نفسه من ذلك. وعلى ذلك جرى الحنابلة.
وكذا اعتبر المالكية في وجوب الإجابة أن لا يكون هناك منكر, وكذلك الهادوية.